العدد 3757
الأحد 27 يناير 2019
banner
استرجاع رفات هارون الرشيد!!
الأحد 27 يناير 2019

أصاب وصدق العقلاء والمفكرون الذين دعوا إلى تحصين الدين ورجاله والمحافظة على طهارتهم وقدسيتهم وذلك بإبعادهم عن أيدي السياسيين وعن الدهاليز الملتوية والمظلمة للسياسة.

وقد سبق أن رأينا كيف أنه في السياسة لم تكن، ولا توجد قيم ثابتة ولا مبادئ مصونة ولا صداقات ولا عداوات دائمة، إنما هناك مصالح دائمة، وأن كل شيء بما في ذلك البشر يصبح، إذا اقتضى الأمر، كالأدوات أو كبعض “السلع الاستهلاكية” التي لها صلاحية محددة المدة.

ولا يقتصر الأمر على الأحياء من البشر، إنما يتعدى ذلك إلى الأموات منهم حتى وإن كانوا من التقاة والصالحين، ففي حومة المعارك السياسية تختفي الحدود والمعايير والروادع الأخلاقية، وعند الحاجة يجوز نبش قبور الموتى وهتك حرمتهم وزعزعة سكينتهم.

فعندما قامت الثورة في إيران وأُطيح بنظام الشاه محمد رضا بهلوي في العام 1979م، وبدأت العلاقات العراقية الإيرانية في التوتر والتدهور والتأزم، بعثت حكومة الرئيس العراقي آنذاك أحمد حسن البكر برسالة إلى الحكومة الإيرانية تطالبها فيها بإعادة رفات الخليفة العباسي هارون الرشيد، المدفون في مدينة مشهد الإيرانية، على اعتبار أنه كان رمزًا لبغداد في عصرها الذهبي، لكن إيران رفضت وامتنعت وطالبت بالمقابل باسترجاع رفات الشيخ عبدالقادر الجيلاني بدعوى أنه فارسي من مواليد جيلان بإيران. بعدها، ولأسباب أخرى، اشتبكت الدولتان في حرب طاحنة دامت لأكثر من ثماني سنوات، وعند انتهائها انشغلتا في مباحثات طويلة مضنية متعلقة باسترجاع الآلاف من الأسرى الأحياء المحتجزين عند الطرفين، ونسيا أو تناسيا قضية الرفاتين؛ فظل أمير المؤمنين هارون الرشيد رحمه الله راقدًا في مدينة مشهد الإيرانية منذ العام 809م، كما ظل الإمام عبدالقادر الجيلاني رحمه الله راقدًا في العاصمة العراقية بغداد منذ العام 1166م.

ولكن، كيف ولماذا دُفن هارون الرشيد في مدينة مشهد الإيرانية؟

غادر هارون الرشيد عاصمة خلافته العباسية بغداد في العام 809م على رأس جيش قاصدًا خراسان؛ للقضاء على ثورة رافع بن الليث، وفي الطريق توفي عندما وصل إلى مدينة طوس، وهي مدينة مشهد الحالية في شمال شرق إيران، ودفن فيها، وأقام ولده المأمون على قبره قبة سميّت وقتها بـ “القبة الهارونية”.

كان هارون الرشيد قد أوصى بالخلافة من بعده إلى ثلاثة من أبنائه تباعًا، أولهم الأمين، ولم يكن الأكبر سنًا، بعده المأمون وهو الأكبر سنًا ثم القاسم وهو أصغرهم، وبعد وفاته دب الخلاف والاقتتال بين الإخوة قُتِل فيها الأمين وتربع المأمون على كرسي السلطة، وهي حالة من حالات كثيرة في تاريخ الماضي والحاضر تثبت عدم حصافة وصواب بل خطورة هذا الأسلوب في التوريث الذي يسبب غالبًا الاختلاف والانشقاق والاقتتال بين الإخوة والأبناء في بيوت الحكم، إلا أن هناك تجربة ناجحة وساطعة ومعاصرة أرساها المغفور له بإذن الله تعالى الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، ملك المملكة العربية السعودية، فبعد أن اختاره الله إلى جواره في العام 1953م، توارث ستة من أبنائه البررة الحكم من بعده بالتتابع بكل سلاسة وسهولة ويسر.

ونعود، في لمحة خاطفة، إلى الخليفة المأمون الذي اتخذ من خراسان في البداية قاعدة له ومقرًا لحكمه، ومنها انطلق واستعان بأهلها وبباقي سكان فارس في حربه وسعيه للوصول إلى كرسي الخلافة ضد أخيه الأمين وغيره من مناوئيه، وبغرض استقطاب آل أبي طالب وغيرهم من الشيعة إلى صفوفه، قام المأمون بدعوة الإمام علي بن موسى الرضا، الإمام الثامن عند الشيعة الإمامية، من المدينة المنورة إلى خراسان وعينه وليًا لعهده وأسبغ عليه لقب السلطان وسَكَّ العملة باسمه. ولما استتب للمأمون الأمر ونجح في التغلب على أخيه وباقي مناوئيه بادر بالتخلص من الإمام الرضا ورتب لاغتياله بدس السم له، ثم أمر بتغسيله وتكفينه وإعداد جنازة مهيبة له، وصلى عليه ودفنه بكل وقار وتكريم إلى جانب قبر والده هارون الرشيد في مدينة مشهد الإيرانية. يؤكد ذلك ابن الأثير في “الكامل في التاريخ” فيقول: “صلى المأمون عليه، ودفنه عند قبر أبيه الرشيد”.

نعم هكذا كانت السياسة ولا تزال.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية