العدد 2830
الخميس 14 يوليو 2016
banner
العلم في الصغر.. وتخريج الأجيال البحرينية الرابحة لنفسها وللوطن..!
الخميس 14 يوليو 2016

نقول في أمثالنا الشعبية: ما أغلى من الولد إلا ولد الولد..! وطبعًا ابنة البنت أيضًا وبالتأكيد..! ولذلك فقد كنت في الأسبوع الماضي ورغم مشاغلي الكثيرة، منهمكًا مع ابنتي الكبرى في ابتكار طريقة ما لإظهار تقديرها العميق وشكرها الجزيل للمدرسة التي تدرس فيها ابنتها وحفيدتي الحبيبة (تالين).. على التقدم الكبير في شخصية الطفلة الصغيرة ومستوى التعلم والأداء الذي وصلته بفضل أسلوب التعليم في تلك المدرسة وجودته ومهارة المعلمات والمربيات الفاضلات..!
هناك مقولة مشهورة عن تشرشل بشأن القضاء والتعليم، وفحواها أن بريطانيا بخير طالما القضاء والتعليم بخير..! وهناك من ينسبها إلى الجنرال ديجول في فرنسا. وقرأت قريبًا منها ولكن عن التعليم تحديدًا منسوبة للرئيس الأميركي روزفلت.. وما يعنينا هنا أن كل هؤلاء القادة والزعماء الذين غيّروا التاريخ، يجمعون على أن الدولة تكون بخير طالما كان التعليم بخير. والمهتمون بعلوم الإدارة وتطوير الذات يعشقون ما يسمى بنظرية كايزن اليابانية بخصوص التحسين المستمر، والتي اجتاحت العالم اليوم.. ولكن قليلون ربما هم الذين يعرفون أن أصل هذه النظرية العبقرية بدأ في مجال التعليم وفي المدارس الابتدائية وما قبلها.. إذ إن اليابان وصلت في تلك المرحلة إلى قناعة مطلقة مفادها أن الهدف الأسمى من العملية التعليمية والتربوية لا يتمثل في تخريج أطفال بارعين وأذكياء بقدر ما هو تخريج أطفال جيدين ومسؤولين ومنظمين..! ومن هنا بدأت سياسة التحسين المستمر في مدارس التعليم الابتدائي ورياض الأطفال، وفق نظريات تراكمية للتحسين والتطوير، وكانت هذه العملية أساسًا لتشكيل نظرية التحسين المستمر كايزن..! واليوم فإن المدارس الابتدائية ورياض الأطفال في اليابان، تشتهر بأنها الأفضل عالميًّا.. ليس بسبب أدائها العلمي المتميز، بل بأدائها التربوي والانساني والبشري..! ومن أساسيات برامج التعليم التربوي في مرحلتي رياض الأطفال والابتدائية في اليابان، ثم سنغافورة وكوريا الجنوبية، أن الأسرة تمثل شريكًا أساسيًّا مع المدرسة في تشكيل شخصية الأطفال وتوجيهها نحو القيم العليا والسجايا السامية وخلق روح العمل والتعاون والمبادرة لدى الأطفال في عمر مبكر جدًّا.. ومعها روح الاعتزاز بالوطن والأسرة والمدرسة والبيئة..! كما تهتم برامج التربية والتعليم هناك بصناعة مهارات الأطفال على حل المشكلات، والمشاركة في الخدمة، ومراجعة الإنجازات، ونقد الذات.. وإلى آخر هذا النوع الراقي من المفاهيم التي يصل بعض طلابنا إلى الجامعات وهم لم يسمعوا بها..
وبالعودة إلى اهتمام ابنتي الكبرى في ابتكار وسائل وطرق متعددة للتعبير عن تقديرها وشكرها العميق لمدرسة ابنتها وللمعلمات والمربيات الفاضلات فيها.. فقد أعجبني هذا الاهتمام والمبادرة الطيبة، ولكن أعجبني أكثر تركيز (أم تالين) على التطور الإيجابي في شخصية ابنتها وليس الأرقام والحروف والمواد الدراسية التي تعلمتها..! وهذا بالضبط ما جعل المدارس والتعليم الياباني يتجاوز أنواع التعليم الأخرى بمراحل عديدة.. ذلك أن مدارس التعليم الغربية نجحت في تخريج مهندسين وأطباء ومخترعين، ولكن حتى أعظم الجامعات والمجتمعات الغربية فإنها تنظر بإعجاب شديد إلى نوعية البشر والأفراد الذين خرّجتهم مدارس التعليم اليابانية من حيث مواصفاتهم العلمية والعملية، ومن حيث القيم العليا التي يتمتعون بها، والالتزام والمصداقية والشعور بالمسؤولية والقيادة وروح المشاركة.
وقد أعجبتني دراسة قامت على إعدادها جامعة تورونتو في كندا، حول سلوكيات طلاب المدارس الابتدائية والمتوسطة في اليوم الأخير للسنة الدراسية .. حيث أظهرت ميولاً احتفالية صارخة وأحيانًا مشاكسة ومتنمّرة وتخريبية لدى الطلاب في معظم شعوب العالم احتفالاً بانتهاء السنة الدراسية، منها تمزيق الكتب والملابس المدرسية وإشعال النار بأزياء التخرج ..إلخ، في حين تميّز طلاب المدارس اليابانية تحديدًا بأساليب أكثر التزامًا وأكثر عرفانًا للمدارس والبيئة التعليمية وأكثر احترامًا وتوقيرًا للمدرسين والمعلمين وحفاظًا على المال العام والمرافق التعليمية وغير التعليمية..! لذلك لم تسجّل ــ مثلاً ـ أية واقعة تخريب ممتلكات في اليابان بعد انتهاء المباريات بين الأندية المتنافسة..! وهو الأمر الذي يكاد يحدث يوميًّا في بريطانيا وأمريكا والغرب عمومًا..!
وأشارت دراسة جامعة تورنتو في معرض تحليلها للنتائج إلى أن الطفل الياباني يتعلّم منذ السنة الأولى في مرحلة رياض الأطفال، كيف يقوم يوميًّا وفي نهاية اليوم الدراسي، بتنظيف غرفة الفصل، وترتيب الأدوات والوسائل التي استخدمها الجميع..! كما يتعلم منذ تلك السنة أن عليه يوميًّا أن يجيب على سؤال مهم جدًّا وهو: هل كان أداؤنا اليوم أفضل..؟ وهل قمنا بعملنا على أفضل ما يرام..؟!
وبكثير من الواقعية، فإنني لا أريد أن أبالغ في التمني أو التطلع إلى الدرجة التي قد تتهمني بالرومنسية تجاه ما أريده لمدارسنا ورياض الأطفال عندنا من تقدم وتطوير واهتمام بالإنسان وشخصيته ومسؤولياته الاجتماعية والبيئية والوطنية قبل تلقينه المحفوظات من الأرقام والمعلومات العلمية البحتة.
نريد تعليمًا يخرج أجيالاً جيدة في قيمها ومعارفها الإنسانية وليس في كم المعلومات العلمية لديها وحسب.. نتمنى تعليمًا تكون فيه الأسرة شريكًا رئيسيًّا في مجال صناعة وتشكيل شخصية الطالب والطفل.. نتطلع إلى تعليم يزرع في نفوس وعقول أبنائنا وأحفادنا معنى المسؤولية تجاه الأسرة والمجتمع والوطن، وكيف يتحملون هذه المسؤولية ويتعاطون معها..! نريد تعليمًا يخرج إنسانًا بحرينيًّا جيدًا قبل أن يخرّج مهندسًا أو طبيبًا بحرينيًّا ماهرًا.. فكما قال السيد المسيح عليه السلام: “ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه”..؟!

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .