العدد 2819
الأحد 03 يوليو 2016
banner
في لقاءات الملك المفدى مع العلماء والوجهاء... المواطنة والتعايش أولاً
الأحد 03 يوليو 2016

لم تكن صدفة أن يكون موضوع كلمة الدكتور محمد مختار جمعة، وزير الأوقاف المصري، بين يدي جلالة الملك حفظه الله ورعاه هو المواطنة والعيش المشترك، فهذه القضية أصبحت في يومنا هذا من القضايا العابرة للقارات والمجتمعات، ولو نظرنا حولنا لوجدنا أن أكثر ما تعانيه المجتمعات المتصارعة والبلدان التي أرهقتها ودمرتها الحروب هو قضية المواطنة والعيش المشترك! يحدث ذلك في العراق وفي سوريا ولبنان وليبيا واليمن وفي نيجيريا وبورما والصومال وأوغندا وأقطار أخرى من العالم.
وعندما كنت أقرأ ما بين سطور الكلمة السامية لجلالة الملك المفدى لهذا العام في استقبال العشر الأواخر المباركة، أحببت أن أراجع كلمات سامية مماثلة في ذات المناسبة خلال السنوات الماضية، وقد اكتشفت اكتشافاً مثيرا حقاً ورائعا أيضاً ومعبراً، وهو أن الكلمات والخطب والأحاديث السامية لجلالة الملك عبر أكثر من سبع سنوات في رمضان كانت مكرسة لمسألة المواطنة والعيش المشترك!
ومن ذلك قول جلالته في مثل هذه الليالي المباركة: إن العيش في مملكة البحرين يمثل تجسيداً عملياً للآية الكريمة (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)، فقد كانت البحرين ولا تزال بحمد الله ملتقىً سمحاً لمختلف العقائد والأديان والمذاهب والأفكار التي تعايشت وتمازجت بسلام وأمان، على مر العصور، حيث كانت البحرين وأهلها أنموذجاً مشرفاً للأخوة والمودة والسلام بين الجميع.
وقول جلالته في خطاب آخر: إن جوهر التعايش في مملكة البحرين هو احتفاظ كلٌ منا بدينه وهويته وخصوصياته كاملاً من غير نقصان، على أساس من الثقة والاحترام المتبادل بين الجميع، ومنبثقاً من رغبة أهالي البحرين في التعاون لخير الإنسانية، وتعميق التفاهم بين أهل الأديان والمذاهب وإشاعة القيم الإنسانية، وإقامة جسور التقارب الإنساني والحضاري والثقافي، كما نص على ذلك الميثاق الوطني والدستور بعد توافق وطني مرت عليه عقود من الزمان.
وفي كلمته السامية قبل أيام، توقف جلالته وهو يتحدث عن موضوع المواطنة والعيش المشترك، عند آيات مباركة أخرى تحدد مفهوم المواطنة الحقة والعيش المشترك السليم والطيب بين أبناء الوطن الواحد والمجتمع الواحد والأمة الواحدة. قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)، وقوله جل وعلا: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)، وقوله سبحانه: (وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ).
فمن دلالات الخطاب الملكي ومؤشراته العالية الأهمية، تحديد مفهوم المواطنة، بالأخوة في الوطن والأخوة في العقيدة، وتحديد غاياتها الأسمى بالتعاون من أجل الخير والبر بالوطن وأهله، ونبذ العدوان، وتحديد قوامها الإستراتيجي بالنأي بالوطن وأهله عن النزاع والفشل والصراعات التي قد تأخذ أثوابا وأشكالاً متعددة، ولكنها في النهاية تلتقي عند هدف النكاية بالوطن وأمنه واستقراره وثبات مواقفه وامتلاكه قراره وسيادته.
ومن الدلالات المهمة لهذا الاستشراف الملكي، ما نستوحيه من صورة اللقاءات المتكررة التي يعقدها جلالته مع وجهاء البحرين وعلمائها، وما تتضمنه هذه اللقاءات من توجيات سديدة، وتعزيز ملكي موصول لأواصر التقارب الوطني والوحدة وتكافل الأسرة البحرينية الواحدة، والتفافها حول قيادتها الحكيمة ورايتها العلية، واستماعها لعلمائها المعتدلين والوسطيين، من دعاة السلم والسلام، ورعاة المحبة والوئام والتسامح، كل ذلك يسجل لرجل المواقف والمهمات، ورائد السلم والإصلاح والاعتدال، وراعي وحدة الوطن واجتماع شمل أبنائه، مليكنا المفدى حمد بن عيسى آل خليفة - أيده الله - في حرصه على الوحدة الوطنية، وتماسك الجبهة الداخلية، وتحصينها بمواقف أبنائها ووقفات رجالاتها وعلمائها، وتماسك مؤسساتها، وعمل الجميع فيها؛ من أجل المحافظة على مكتسباتنا الوطنية، ومنجزاتنا النوعية، لتكون حصيلة ذلك كله هي الرد الذي نواجه به كل المؤامرات والأطماع والأيدي الخفية التي لا تريد خيرا بالوطن ولا بأهله.
ولذلك، فلم تكن مصادفة تركيز جلالته في حديثه الأخير لرجالات وعلماء ووجهاء المملكة على الإشادة الملكية السامية بالوقفة الوطنية لهؤلاء الرجالات وغيرهم من أبناء البحرين، واجتماع كلمتهم وأمرهم، يداً واحدة وصوتاً واحداً في وجه التحديات وأمام العالم، فما تعطيه لوطنك هو من مقتضيات المواطنة الحقة، وما تقدمه من مواقف ومؤازرة وتسامح وتكافل لأبناء بلدك هو من مقتضيات التعايش الصحيح في الوطن الصحيح بالطريقة الصحيحة.
وعندما أطلق الزعيم المصري الخالد مقولته الشهيرة “الدين لله والوطن للجميع”، فإنه لم يكن يقصد أن يجعل من الدين كيانا يتعارض مع الوطنية أو ينفيها، بل كان يريد أن يجعل من الدين أصلا من أصول الوطنية وجذرا من جذورها الراسخة، كما أن الوطنية بمفهومها الشامل هي نوع من الالتزام الديني الإيجابي نحو الوطن وأهله ومؤسساته وعوامل قوته ونهضته وارتقائه، فالمؤمن الحق لا يخون وطنه ولا يعادي أمته وشعبه، والمواطن الحقيقي لا يتطرف في دينه إلى الحد الذي ينفي فيه حقوق الآخرين ووجودهم وكراماتهم، وبين هذا الخط وذاك، تتحدد مفاهيم المواطنة بالتعايش الإيجابي والفاعل والمفيد بين مكونات الوطن وفئاته، وبين أبنائه وبناته، وتتحدد مفاهيم التعايش في الوطن الواحد بالالتزام بمبادئ المواطنة ومتطلباتها ومؤشرات صلاحيتها وسلامتها.
ولا تزال الرؤية الملكية السامية بثاقب بصيرتها تقودنا إلى ما نصبو وما نريده لأنفسنا وأبنائنا ولوطننا وشعبنا، لا تزال تسير بنا في طريقات النهضة ودروب النماء لتؤكد للعالم أن مليك الإصلاح الذي جاء حاملا راية الصلح والمصالحة قبل راية الحكم والحاكمية سيبقى هو الرائد الذي لا يخذل أهله، والقائد الذي لا يتراجع عن حماية وطنه، والربان الذي لا تهزمه العواصف والأنواء، بل تزيده ثقة وحكمة كما تزيد سفينته قوة وصلابة.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .