+A
A-

المصرفي المخضرم أ. عبدالكريم بوجيري: أكبر هاجس كان يسيطر على تفكيري هو رفع تصنيف البحرين العالمي

أمامك أمران لا ثالث لهما وأنت تحاور مصرفيا مخضرما كالأستاذ عبدالكريم بوجيري، فإما أن تصغي طوال الوقت لتسيطر عليك حالة من الإعجاب بمنظومة لا متناهية من الأفكار والمعلومات ونتاج عمل عقود في القطاع المالي والمصرفي، وإما أن تبحث عن تساؤلات تتلوها تساؤلات لتنهل المزيد وتأتيك الإجابات دون حواجز.

حسنًا، ليس هذا فحسب، بل حين تعيش لحظات تطالع كتابه "تأملات في الحياة"، لواحد من كبار المصرفيين على مستوى مملكة البحرين ودول مجلس التعاون الخليجي بل والمنطقة العربية، فإن عناوين كثيرة من الانطلاق بعزيمة، والنجاح بإصرار، والإبداع بجدارة، في قصص تدور في فلكها قبل أن تدور في فلك أفكارك بسرد يخبئ في ثناياه مساحات شاسعة من الاقتدار والإنجاز المشرف.

إذن، لنعد إلى العام 2011 فالأمر ليس جديدًا ونحن في ضيافة "بو طارق".. ففي ذلك العام، تألق باختياره كأفضل مصرفي في الشرق الأوسط في مجلة "وورد فاينانس". وفي العام 2016 تألق اسمه وتم تكريمه في دبي بالإمارات العربية المتحدة لاختياره من ضمن أفضل 100 رئيس تنفيذي في منطقة الخليج والعالم العربي، وبصماته المميزة ما تزال واضحة في الإنجازات والمكانة التي يتبوأها بنك البحرين والكويت في فترة قيادته رئيسا تنفيذيا للبنك، وها هي جمعية البحرين المصرفية تحمل العرفان بدورته في رئاستها لفترتين متتاليتين، وبعد.. لم يكن التقاعد إلا بداية لمشوار جديد، فـ "بوطارق" يرأس حاليًا مجلس إدارة بورصة البحرين، ويترأس أيضًا مجالس إدارة شركات ومؤسسات مختلفة.

هكذا أرى أبناء البحرين

  • بعد عقود من العمل والإنجاز، هنا نأتي لنقترب من مسيرة العمل في القطاع المصرفي، فكيف تنظرون إلى ما تحقق بجهد الكوادر البحرينية العاملة في هذا القطاع؟

أفتخر بالقول إن البحرينيين في القطاع المصرفي لا مثيل لهم في كل الدول العربية والكثير من دول العالم، وربما يمكن ملاحظة أن هذا القطاع يهيمن عليه البحرينيون بشكل واضح، لاسيما الشباب، ودعني أقول إنني عندما كنت أزور بعض الدول، ومنها دول الخليج العربي، أجد أن القليل من المواطنين الشباب من أهل البلد يعملون في المصارف والمؤسسات المالية، عكس ذلك، ومنذ سنين، وأنا أرى أبناء البحرين يعملون في القطاع المالي بدولة الإمارات العربية المتحدة والكويت وعمان وقطر، ولعل أهم سبب في ذلك هو الدور الذي لعبه معهد البحرين للدراسات المصرفية، الذي أسهم في تدريب وتخريج الكثير من الدفعات المتخصصة والمؤهلة في المهنة، ثم ضع في اعتبارك حب الإنسان البحريني للتعلم والتدرب واكتساب المهارات في مجال البنوك، وكم كنت سعيدًا وما زلت بهذه الطاقات، مثلًا.. قبل مغادرتي رئاسة بنك البحرين والكويت، كان لدينا ثلاثة قياديين بإمكانهم تبوء الرئاسة التنفيذية بكل اقتدار.. جاهزون ومهيأون بخبرات كبيرة، فقد جاء بعدي الأخ رياض ساتر ومن بعده الدكتور عبدالرحمن سيف، إلى جانب أن هناك الكثير من البحرينيين بإمكانهم تولي المنصب وهم أفضل من غيرهم لأنهم يعرفون سلك البلد، والطابع البحريني وسمات مجتمعهم ويدركون متطلبات المواطن والمقيم، ولهم معرفة بالعوائل، وطبعًا هذا الأمر مهم للغاية، بخلاف غير البحرينيين الذين ينصدمون ربما بالوقع البحريني.. لو تحدثت عن المصافحة مثلًا، فبالنسبة لنا كبحرينيين فشرف المصافحة أفضل من ألف وثيقة وكلمة الرجل البحريني هي شرف التعامل، والقطاع المصرفي كما نعلم له تفريعات كثيرًا من الأعمال، واليوم نرى البحريني يتخصص بجدارة في كل المجالات المرتبطة كإدارة المخاطر والتكنولوجيا المالية والمشروعات وما إلى ذلك من مستجدات.

تلك كانت الهواجس

  • ربما نستطيع الحديث "خلفًا سر".. لنقف على أهم الهواجس التي كانت تشغل اهتمامك طيلة سنوات العمل..فما أبرزها؟

لا أفشي سرًا حينما أقول إن من أهم الهواجس التي كانت تشغل بالي هي الاستقرار والأمان المصرفي، أضف إلى ذلك أن رفع تصنيف البحرين عالميًا والحفاظ عليه مستقرًا كان من أكبر الهواجس بالنسبة لي، ذلك لأنك تحتاج إلى جهد كبير وعمل دؤوب وخطط ورصد ومتابعة لكي ترفع تصنيفك، لكن نزوله قد يحدث في ليلة واحدة، وهذا ما حدث بالنسبة لمملكة البحرين التي كانت مصنفة تصنيفًا عاليًا ولكن بين ليلة وضحاها، كما حدث في أزمة الكساد العالمي العام 2008 وكذلك في أحداث العام 2011، انخفضت في تصنيفها بشكل كبير جدًا في أيام معدودة، ما يعني الحاجة لسنوات من العمل لإعادة التصنيف إلى موقعها المتقدم.

الهاجس الآخر المهم هو تدخل بعض الجهات الحكومية في منافسة القطاع الخاص، فعلى سبيل المثال، كان لدينا شركة اتصال نقدم من خلالها عطاءات لجهات حكومية، فنجد أن التي فازت بالعطاء شركة شبه حكومية! فلماذا تدخل الحكومة في جوانب عمل مخصصة للقطاع الخاص؟ لاسيما أن البحرين تنتهج سياسة السوق المفتوحة، إلا أنك تجد بعض التشريعات والقوانين تحد من أفق السوق وتجعلها سوقًا مراقبة وهذا يتعارض مع السياسة العليا للقادة في البلد.. إن السوق المفتوحة للعرض والطلب تحكمها عوامل السوق وليس التدخلات الحكومية، فأنت تستثمر الكثير لتحصل على عطاء حكومي ثم تتفاجأ بأن شركة شبه حكومية حازت على المناقصة بكل سهولة فأنت تخسر، علاوة على أن هذا الأمر تسبب في العزوف عن الاستثمار حتى لا ننصدم بهذه الممارسات.

تلك كانت أهم الهواجس، أما القوى العاملة فلم تكن أبدًا هاجسًا، فهي متوافرة وولاؤها قائم وليس مثل بعض الدول التي تعتمد على جنسيات متعددة، ويتورط المصرف حين تغادر من البلد في حال وجود أزمة، وقلنا إن قطاعنا المصرفي قائم على البحرينيين، ولي أن أشير أيضًا إلى أننا حين نتحدث عن الحفاظ على التصنيف السيادي فذلك ليس بيد وزارة المالية ولا بنك البحرين والكويت بل يعتمد على الاقتصاد الكلي من موارد وأسعار نفط ووضع سياسي ووضع جيوسياسي في المنطقة، ولهذا تعتمد على كوادرك المؤهلة للتخفيف من التداعيات والآثار وتعمل وفق ما في يدك من إمكانات وقدرات.

نحن في نعمة

بلا مجاملة وهذه حقيقة، حين أسافر وأعود إلى البحرين، وحال وصولي مطارنا، أحمد الله سبحانه وتعالى على ما نحن فيه من نعمة.. رأينا كيف أنه في الدول الثانية لا يستطيع الإنسان العيش بسبب غلائها وأنظمتها وضرائبها، فيما نحن نعيش في نعمة كبيرة لا يشعر بها إلا من هاجر وتغرب وعاش خارج البلاد. ويحضرني هنا موقف نقاشي مع شقيقي محمد (رحمة الله عليه) حين كان يعبّر عن الضيق والتذمر من الأوضاع في البلد، فسألته ما الذي يضايقك؟ فأشار إلى بعض الرسوم ومنها المستقطع لصندوق التعطل والتقاعد فقلت له إنه نظام تكافلي اجتماعي ينفع المواطن وأسرته، أي أنه يعود لمنفعة أهل البلد، وحينها كان رحمه الله في تجربة علاج مع زوجته فحصل على 6 مقاعد في الطائرة مجانًا. وحين وصوله كان فريق السفارة ينتظره لنقل زوجته بسيارة الإسعاف ومتابعة الأمور معه، فقلت "في أميركا هل تتوقع أن تحصل على ما حصلت عليه؟ هل يتوقع المواطن أن يمنح مقعدًا واحدًا فقط مجانًا؟"، لذلك أقول وأكرر إننا نعيش في نعمة بفضل الله ربنا الذي يقول "لئن شكرتم لأزيدنكم"، وقيادتنا دائمًا تضع مصلحة شعبها في المقدمة، أقول لك أمرًا.. في العام 2011 حين شهدت أزمة، كنا نخطط لإغلاق بعض الفروع منعًا للتلفيات والتخريب، فوردتنا اتصالات من شخصيات قيادية بل وعشت بعض المواقف شخصيًا في التواصل، حيث كانت القيادة حريصة على تجنيب تضرر المواطنين بسبب إغلاق الفروع، فقلبها كان على المواطن أكثر من أي شيء آخر.

الحفيد عبدالكريم.. إضاءة بهجة

  • ماذا عن الحياة الأسرية والاجتماعية في ظل هذه المسيرة القيادية؟

في بداية الحياة المهنية وأثناء تكوين النفس ربما تعطي العائلة جزءًا ثانويًا على الجزء الأساس وهو العمل لتمكين نفسك، وبعد أن تستقر وتتمكن تبدأ في ترسيخ الموازنة المطلوبة، لكن بالنسبة لي أقول.. ليتني وازنت منذ بداية حياتي العملية، حيث إنني أعطيت الجانب المهني مساحة أكبر من مساحة العائلة، وعدت ولله الحمد في السنوات الماضية لأصنع فارقًا وتوازنًا ممتازًا بين الأسرة والعمل. دورك في المجتمع أيضًا مهم سواء كنت في منصب قيادي كبير أو موظفا صغيرا، وهذه من شمائل وسمات المجتمع البحريني حيث طيبة الناس على السجية ولا يمنعهم مانع من التعرف على الجميع، وهذه الطيبة تصنع لك صديقا وسندا في الأوقات الصعبة، وأنا اليوم ولله الحمد والمنة، مع أسرتي الرائعة وزوجتي أم طارق، وأولادي طارق ومروان وهند، وحفيدي عبدالكريم الذي أراه من أجمل نعم الله سبحانه وتعالى.. يضيء في حياتي نورًا وبهجةً وسعادة.

أحببت جوهانسبرغ

  • الله يحفظ الحفيد وتبلغ فيه ويحفظ غاليك، نريد أن نسافر معك "بوطارق".. فأي المدن تحب؟

أحب السفر كثيرًا إلى لندن والقاهرة، فقد عملت في هاتين المدينتين وعشت فيهما لفترات طويلة وأعرف مناطقهما و"زرانيقها" وشوارعهما ولدي أصدقاء أعزاء، وجمال المدن ومكانتها من القلب، وكما تعلم يتعلق بالناس الذين تربطك بهم العلاقات النبيلة الإنسانية الطيبة، ولدي أصدقاء كما قلت أزورهم وأتواصل معهم وأعتز بصداقتهم، وبالمناسبة، زرت جنوب إفريقيا.. وجدت جوهانسبرغ مدينة جميلة للغاية رغم وضعها الأمني غير المستقر وأعجبتني، ولا شك أن مدينة مثل اسطنبول لها إرثها الإسلامي والتاريخي وهي من المدن التي أحببتها.

أطبخ حين أسافر

  • بعد التقاعد.. أين تكون في عملك وهواياتك؟

ينتهي دورك وعطاؤك حينما تجلس بعد التقاعد دون أن تفعل شيئًا، وأنا ولله الحمد أرأس البورصة ولي مهام كوني نائب رئيس مجلس إدارة لعدد من البنوك ورئيس مجلس إدارة لبعض الشركات، وهذه المسؤوليات لها وقتها وجهدها، وفي أوقات الفراغ أمارس لعبة الغولف والسنوكر وأحب الرحلات البحرية والصيد وهذه الهوايات لا أستغني عنها، كما أني مولع بقراءة الكتب التاريخية، ولأنني أحب السفر، فأحب كذلك الطبخ حين أكون مسافرًا.

ثمار الإخلاص تأتي

  • بودنا "بوطارق" أن نختم بمسك من الكلام للأبطال في الصفوف الأمامية؟

جهدهم لا يمكن أن نوفيه شكره وحقه، فهؤلاء الأبطال في الصفوف الأمامية يخدمون وطنهم وناسهم بل يخدمون كل الجاليات المقيمة في البلد، وأنا مؤمن تمامًا بأن كل عمل مخلص تأتي ثمارة في المستقبل وإن غدًا لناظره لقريب.. خذ مثلًا حين يأتيني شاب يشكو من عدم حصوله على الترقية أو عدم زيادة راتبه، أنصحه وأشجعه بأن يستمر في العمل ما دام في شبابه، وأن يقدم ما يملك من جهد ثم التوفيق يأتي من رب العالمين أولًا ومن أصحاب العمل ثانيًا، فليس هناك من يعمل بجد واجتهاد وإخلاص إلا ويجني الثمار في المستقبل، ولا يضيع هذا الجهد أبدًا وسيعود له في يوم من الأيام ولو بعد حين.. المخلص والمجتهد لابد وأن ينتظر كرم رب العالمين، وقد قدم لنا أبطالنا في الصفوف الأمامية والمتطوعون نموذجًا من الإخلاص والوفاء طيلة فترة جائحة كورونا التي نسأل الله أن تنقضي وتعود الحياة إلى طبيعتها، والكل في خير وسلام بفضل الله جل وعلا.