مَرْثِيَة مدينة أور هي أدب رثاء ملحمي، تُذكرنا في مناحات عصرنا لأوطان ومدن نزيفها ماكث في جغرافية العرب والمسلمين. مرثية أور صدى أنينها لكل حواضر ألمها لم ينتهي. والتالي نبذة عن المرثية التي تم أكتشافها ونقلها من حضارة بلاد الرافدين، حينما فكَّ الغربيون القرن الثامن عشر وما تلاه رموز الكتابة المسمارية، تلك الكتابات نُقشت على ألواح طين مطبوخ (رقيم). من خلال هذه الكتابات، استطاع الباحثون والآثاريون معرفة كُنْه أسرار حياة هؤلاء الأقوام. المرثيات المكتشفة حملت عنوانين سُمَّي بعضها؛ لعنة مدينة آكاد، ومرثية سومر وأور، ومرثية مدينة أور.
مرثية مدينة أور تُعد واحدة من أقدم نصوص الرثاء والمناحات المنقولة لمدينة تاريخية سومرية. أور كانت عاصمة السومريين حينما سقطت بيد الغزاة العيلاميين حيث أصابها منهم هول التدمير والحرق. وأور عند السومريين هي مدينة الإله لوجود معبده ومختار أقامته. والمرثية سياقاتها صورت التوجع وما حصل من هدم للمعبد، وتشرد الساكنين، حتى ذهب بعضهم إلى ما فُسِّرَوه أن الآلهة تخلت عنهم وعتبت عليهم.
مدينة أور تقع على نهر الفرات، والآن مكانها بضع كيلومترات عن مدينة ذي قار (الناصرية) جنوب العراق. وذي قار التأريخية كنزت ما يزيد عن ألف موقع أثري، يعود بعضها إلى عصر فجر السلالات والحضارات السومرية والأكدية والبابلية والأخمينية والفرثية والساسانية وكذلك العصر الإسلامي. اما أور فقد أحتفى بذكرها العهد القديم التوراة بأنها مدينة النور، وموطن أبي الأنبياء إبراهيم.
أشعار المرثية فيها ما يُقارب 430 سطرا يعود نصها التأريخي إلى النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد. والمرثية ملحميتها تصف ما حلّ في أور بعد اجتياح العيلاميون وهم أقوام سامية، قدموا إلى العراق من الأحواز التي هي الآن مُحتله من قبل إيران. المرثية فيها نحو إثنين وعشرين لوح طيني، أكتشفها فريق التنقيب من جامعة بنسلفانيا الامريكية منذ عام 1889م.
المرثية تضع غزو العيلاميون بسياق ديني درامي، وتعزوا ما حدث لمدينة أور إلى غضب الآلهة على المدينة حيث هجرت الآلهة معابد أور وتخلت عنها، فأصبح توجعها كحال غزالة قُضِيَ عليها بآلة صيد. تقول المرثية ببعض نصوصها على لسان الآلهة تندب مدينتها؛
اليوم الذي كنتُ أخشى
يوم العاصفة ذاك
قد كُتب عليَّ وقُدِّر
هبط عليَّ مثقلاً بالدمع
الليلة التي كنت أرتعد منها
ليلة البكاء المُرُّ
قد قُدِّرت عليّ
لم أستطع الهرب
أمام ليلة القضاء تلك
جفا الرقاد وسادتي والأحلام
لإن الأسى المُرُّ
قد قُدِّر على أرضي وشعبي
سعيت إلى شعبي
كما البقرة على عجِلها
فلم أستطع نشبه من الطين.
وتستمر المرثية في وصفها لإور وما دخل من سِجال الآلهة حول ذاك الدمار، إلى أن تنتهي بالتماس الرحمة من قِبَلِ إله القمر وأسمه نانا، وهو ماثل امام الآلهة أنليل وهو سيد الريح والعاصفة ويُسيّر البشر في الأرض
قائلا؛
أي ذنب جنته مدينتي (أور)
حتى أدرت وجهك عنها
أفتح ذراعيك
خذ إليك مدينتي
أنشلها من وحشتها
دع أسمك يعلو في أور مجددا
وأهلها يتكاثرون من أجلك
فأجاب أنليل؛
قلب المدينة يبكي
وناي القصب فيها ينوح
فإنك لن تقايض بالدمع شيئا
لقد منحت أور سلطانا
ولكنها لم تُمنح دواما
كذا فسلطان أور
قد أُجتُث وولى
مرثيات المدن الهمت الشعراء وكُتاب الفن الملحمي والمسرحي لصناعة مراثي للخرائب التي لم تنقطع عبر الزمان، وبعضهم يتفنن في الإخراج للتفجع والبكاء، وغالبا يحذوا بخاتمة فيها بارقة أمل لولادة تلك المدن المدمرة.
أوجه بلاغة مرثية أور تطال أطياف الإبداع الأدبي في تصوير معاناة وهموم، مستخدمة ضروب المجاز والاستعارة الرمزية للطبيعة كالتحذير من عواصف الغُبار المدمرة، والريح الممطرة الهوجاء لمناخ بلاد الرافدين، وتشبيه الأسلحة مثل المطر يصحب سقوطها دوي وَجَلَبَةٍ. المرثية فيها مجاز درامي وافر للحيوانات، فالثعلب عنوان الدمار، والنعجة ترمز للخضوع حين الذبح، والماعز الأم التي هلك جديها بين المواشي كيف تحزن، والثور بخُواره في مربطه رمزا للازدهار، وحضائر المواشي والأغنام خصوبة ونمو، والعصفور رمزا للانطلاق، والسمك علامة للحياة.
تنتهي المرثية إلى نهاية حزينة وكأنها تشف مُحاكاتها معاني سرمدية تتابع لمرثيات مُدن زماننا التي لم تُدّون بعد. وبلاد الرافدين ما برحت تزفر بأنين تساجل صداه عبر الأثير ولا زال.
الحديث عن مناحات عصرنا طالت أوطان تم فيها تهجير وقسر وتغير ديموغرافي، شمل بعضه إبادة جنس، وفيه وسائل بطش وحرق واستبداد وحشي بلغ مداه بمحرمات أسلحة فتاكة. ظلم يُمطر على بشر لا ردع قانون أممي أو تحكيم دولي نافذ. حالة فيها جراحات أبرياء ودمار مدن تجعل الحليم حيران، والوالدان فيه تشيب؛
والهَمُّ يَختَرِمُ الجَسيمَ نَحافَةً
وَيُشيبُ ناصِيَةَ الصَبِيِّ وَيُهرِمُ
مشاهد عصرية في بعض مدن العرب والمسلمين لا يبرح عنها النكد والدمار. مناحاتها تسرمدت، وملحمياتها ترابطت كحلقات سلسلة. مهانة وإستقواء خارجي، وطوابير تفتح ثغور وتجلب مآسي. مرثيات يجف له مداد قلم، بل يُحار بفك ألغازها. تكوي مخلصين من أهل بذل وتفعيل الممكن، وجسارة دعم ولملمة فرقه، وعمل دؤوب في دهاليز أمم لرفع ظلم وأخذ حق، يعملون دونما يأس أو تخاذل عن واجب رغم قذفهم.
ختاما مرثية أور تراث أدبي طرز بلاغة ومجاز مرصوص السبك، درّت به حضارة الرافدين وتخلد بتعاقب الأزمان، وما ملحمة جلجامش الشهيرة إلا من هذا المعين. ومرثية أور عند الباحثين اكتست بدلالات تاريخية فيها طبيعة التعلق بالغيبيات والمعبودات ونواميس الحياة آنذاك.
هذا الموضوع من مدونات القراء |
---|
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected] |