+A
A-

“البلاد” تنشر كتاب “قبل أن تتهاوى” لنبيل المحمود (الحلقة الثانية)

ما يعانيه من نقاط ضعف يتهم بها سواه

ما يتسبب به من تقصير يعلقه على شمّاعة مرؤوسيه

إذا كان الرئيس محتالا فلا يمكنك أن تتوقع من الموظفين أن يكونوا أمناء

منتسبو الدائرة يمتلكون قدرات كبيرة في مجال عملهم

 

تنشر “البلاد” على حلقات كتاب نبيل آل محمود “قبل أن تتهاوى”، والذي يتضمن مجموعة دروس عن الممارسات الإدارية المتبعة بالقطاعين العام والخاص.

الكتاب يقدم حقائق وممارسات تفاعلية في علمي الاجتماع والسيكولوجيا.

ويُعالج تحديات الأداء والإنتاج والإنتاجية والسلوكيات والممارسات الإيجابية والسلبية والأساليب الإدارية المتعددة وآليات قياس الأداء والتنافسية والمخاطر والقيم المؤسسية وأخلاقيات المهنة.

ويترك للقارئ مؤشرات الحلول التي تقوده للتوصل إليها من خلال سيناريو الموضوع ذاته؛ وذلك من أجل تدارك ما يمكن تداركه قبل أن تتهاوى، وهو سر عنوان الكتاب.

 

الرئيس “التنفيري” يهدد بالفصل كل من لا يدور في فلكه

القائمون على المؤسسة ملومون باختيارهم شخصا بتاريخ سلبي

“قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا” الآية 35 سورة الكهف

هو نموذج من التنفيذيين ممن ابتليت بهم بعض المؤسسات ويجعلونا نتحسر بالقول: يا ليت الرجل المناسب في المكان المناسب. عمل في شركات محلية بوظائف متدنية، ثم انتقل إلى مؤسسة مصرفية لبث فيها فترة من الزمن مع تدرج في مناصبه، لكن بقاءه لم يدم طويلا، حيث تم فصله منها على خلفية إدانته في قضية «...»، وعلى إثر ذلك انتقل إلى العمل بمؤسسة مالية في دولة خليجية، لكن أداءه المتواضع وسلوكه غير السوي لم يمكناه من الاستمرار في تلك المؤسسة، حيث تم إنهاء خدمته لتسببه في تكبيد المؤسسة خسائر مالية. فلم يكن لديه خيار آخر سوى العودة إلى بلده الذي بدأ فيها رحلته بالبحث عن عمل جديد بشكل مباشر أو عبر الشركات الاستشارية (Head Hunters)، فكان له ما أراد في التحاقه بمؤسسة خدمية بمنصب رئيس تنفيذي، وقد كان ذلك مثار استغراب لكل من يعرفه حق المعرفة، حيث تبين أن متخذي القرار بهذه المؤسسة لم يرجعوا لمؤسساته السابقة للسؤال عن أدائه وسلوكه، بل وقع اختيارهم عليه لقبوله عرضهم المالي المتدني قياسا بالمنافسين الآخرين الأكفأ منه، فإنهاء خدمته في مؤسسته الأخيرة دفعه لقبول ما يُعرض عليه، فكانت النتيجة هي تورط العاملين بالمؤسسة والمتعاملين معها.

فقد عمل منذ يومه الأول على تعويض كل ما يعانيه من نقص مع من حوله، بل أصبح يرى الآخرين بعين طباعه، فما يعانيه من نقاط ضعف يتهم بها سواه، وما يتسبب به من تقصير يعلقه على شمّاعة مرؤوسيه، وما سبق أن أدين به يوسم به زملاءه، كل ذلك خوفا من مواجهة ذات المصير الذي واجهه في المؤسسات السابقة. بل إنه انتهج نهجا يثبته بمنصبه ويجنبه تكرار ذلك مهما حصل، فعمل منذ الوهلة الأولى على التخلص من منافسيه بأساليب غير أخلاقية عبر تشويه صورهم أمام متخذي القرار تمهيدا لإقصائهم، بالتزامن مع ممارسة القرصنة الإدارية في نسبة منجزاتهم إليه.. فغياب البديل يعني غياب الخطر على منصبه.

ولاشك بأن العيب لا يقع عليه هو بقدر وقوعه على القائمين على المؤسسة، فما يعانيه هو من عيوب وما سبق إدانته به يدفعه لتلك التجاوزات مع المحيطين به. أما القائمون على المؤسسة، فهم الملومون باختيارهم شخصا بهذا التاريخ السلبي دون التقصي عنه ثم تركه يعيث فسادا في المؤسسة دون محاسبته أو ردعه أو الالتفات  للشكاوى المرفوعة ضده، مما أساء لهم ووضعهم في موضع الإدانة مثله تماما. كل ذلك تسبب في تردي بيئة العمل واستياء الموظفين وتدني الأداء والإنتاجية، وانعدام الأمن الوظيفي من جراء اتباع الرئيس منهجية التهديد بالفصل لكل من لا يدور في فلكه، بل بلغ الوضع إلى تنفير العاملين بالمؤسسة من مواصلة العمل بها، فقد بدأ معظمهم خاصة المسؤولين بالبحث عن وظائف في بيئة عمل أفضل مع رئيس دون عُـقد. فضلا عن خسارة المؤسسة للعديد من المرشحين الجدد للوظائف بسبب سمعة المؤسسة، وتحديدا السلوكيات غير السوية للرئيس «التنفيري» الذي أصبح ينفر الآخرين من الانضمام للمؤسسة دون رادع ظنا منه بأنه منصب أبدي لن يزول، في الوقت الذي يغط متخذي القرار في سبات لن يصحوا منه سوى بتورطهم معه في شرعنة تجاوزاته.

يذكر كارل سيول في كتابه زبائن مدى الحياة: «إذا كان الرئيس محتالا، فلا يمكنك أن تتوقع من الموظفين أن يكونوا أمناء»، حيث يتطرق إلى حتمية انسجام الأخلاقيات الذاتية مع التوجهات الإصلاحية للمؤسسة لكي يحالفها النجاح وإلاّ.. بعدها يوجه سؤالاً ثم يجيب عليه:

س: ماذا تعمل لمن يخرقون السياسة الأخلاقية؟

ج: إذا كانت المخالفة بسيطة، أعط المخالف فرصة أخرى، فرصة أخرى واحدة، أما إذا كانت المخالفة رئيسة.. اطرد المخالف فورا.

ونحن بدورنا نوجه السؤال ذاته لأصحاب القرار.. فهل من إجراء يحفظ صورة المؤسسة قبل فوات الأوان؟؟؟

 

استجلاب خبير أجنبي لتطوير الوضع الداخلي للدائرة

عدم استجابة المسؤول لمقترحات تطويرية من الموظفين

كان منتسبو الدائرة متمرسين في القيام بمسؤولياتهم، يمتلكون قدرات كبيرة في مجال عملهم، يؤدون وينجزون مهامهم كما ينبغي، الأمر الذي جعل مسؤولهم راضيا عن مستوى أدائهم، وقد كانوا هم كذلك راضون عن مسؤولهم، وعن أسلوب تعامله معهم، وعن سلوكياته في العمل. لكن ذلك الرضا كان يشوبه أمر واحد، ألا وهو عدم استجابة المسؤول لبعض المقترحات التطويرية التي كان يتقدم بها الموظفون، حيث كان يتعذّر بتكاليفها، أو بالحاجة لمشاركة أطراف أخرى من خارج الدائرة، أو بصعوبة الحصول على موافقة الإدارة العليا أو.. لذلك ظل الوضع كما هو عليه، وظلت بعض المشكلات كما هي عليه. إلى أن جاء اليوم الذي وجه فيه هذا المسؤول تقريرا للادارة العليا يوصيها من خلاله بضرورة الموافقة على استجلاب خبير أجنبي من أجل العمل على تطوير الوضع الداخلي للدائرة وتحسين آليات العمل وأساليب انجاز المهام، فكان له ما أراد، حيث تمت الموافقة وقدم الخبير من إحدى الدول الأوروبية بعد اختياره كأنسب المرشحين.

بدأ الخبير عمله بمراجعة الوضع برمّته، ثم تحليله وتقييمه، وقد فضّل الاستعانة بالعاملين أنفسهم، حيث اضطلاعهم بمجالاتهم، وإلمامهم بالمعوقات والصعوبات التي تواجههم، فكان “يتنقّل” من موقع الى آخر، ومن مكتب الى آخر، ليلتقي بالموظف تلو الموظف؛ من أجل مناقشته ومحاورته في أمور العمل ليستشف السلبيات ونقاط الضعف، الأمر الذي أسعد الموظفين كثيرا، فمجرد إشراكهم في مهمة كهذه تعني وضع اليد وضعا صحيحا على موطن الألم مما يسهل معالجته فيما بعد. وقد كان الخبير يوجه استفسارات ثابتة لكل طرف ويتلقّى ردودهم في سياق حواره معهم كالنموذج التالي:

الخبير:  في اعتقادك، ما أهم الصعوبات التي تواجهونها عند إنجاز مهامكم في هذا القسم؟

الموظف: تختلف الصعوبات من مهمة لأخرى، ولكنها تنحصر في كذا وكذا، فيدوّن الخبير الإجابه.

الخبير: وما الأسباب الحقيقية وراء ذلك؟

الموظف: نقص في كذا، قلة الدعم والمساندة من جانب كذا، فقدان القدرات والكفاءات في المضمار الفلاني، ثم يسجل الخبير الإجابة.

الخبير: وفق رأيك، ما أفضل الطرق وأنسبها لحل هذه المشكلات والتغلب عليها؟

الموظف: تحسين الوضع القائم من خلال كذا، تلقّي الدعم من جانب الإدارة العليا لتلبية احتياجات.. ، تدريب العاملين في حقل.. وتطوير قدراتهم، التخلص من آليات العمل الحالية واستبدالها بآليات متقدمة مثل كذا.. ثم ينسخ الخبير كل ما يُقال.

وفي كل مرة يجمع فيها الخبير معلوماته، كان يُدونّها في هيئة تقرير يتضمن المشكلة وحلولها ثم يرفعه للمسؤول، الذي كان بدوره يجمع منسوبي القسم المعني بالمشكلة، ثم يقوم بعرضها عليهم متبوعة بوجهة نظر الخبير لحلّها. ومع كل قسم كان المسؤول يلتقي منتسبيه، ومع كل مشكلة كانت تُطرح، ومع كل تقرير كان يُناقش.. كان الموظفون يكتشفون بأن الخبير يجمع كل ما يُبرزونه من مشكلات وصعوبات وكذلك ما يطرحونه من حلول ومقترحات تطويريه ثم يدونها حرفيا في شكل تقرير يحمل اسمه شخصيا، وكأنه هو من اكتشف تلك المشكلات، وهو من وضع الحلول لها، وهو من.. وبطبعية الحال يتبع ذلك مصادقه الإدارة العليا على التنفيذ، الأمر الذي استاء منه الجميع، مما دفع أحد الموظفين لجمع نسخ من تقاريره السابقه التي سبق وأن رفض المسؤول تنفيذها بعد أن ثبط عزمه بالحجج سابقة الذكر، وذلك لإثبات حقه في تلك المقترحات بدلا من ذلك الخبير “القرصان”.  وكان يوم الاجتماع، حيث جاء دور القسم الذي ينتسب إليه، وما إن انتهى المسؤول من سرد ما جاء في تقرير الخبير من معوقات وحلول، حتى داخله الموظف بالحوار الآتي:

الموظف: هذه تقاريري السابقة التي نوّهت فيها إلى ذات المعوقات، واقترحت فيها ذات الحلول، لكنها لم تنفّذ! وأضاف: إن هذا الخبير قد اجتمع بكل ذوي الشأن في هذه الدائرة، ثم اقتبس منهم كل ما احتوته تقاريره التي عرضها عليك.

المسؤول: المهم الآن هو تنفيذ هذه المقترحات، وليس من هو صاحبها.

الموظف: لكنك سبق وأن رفضتها بحجة كذا وكذا...

المسؤول وقد احمر لونه: حسن، لقد تغيرت الظروف الآن، وتهيأت لتنفيذها.

الموظف يهمس لنفسه: بل تغيّرت ألوان البشرة فحسب.

بعدها أقدم الموظف على تحريض زملائه بعدم تقديم أي حلول أو مقترحات لذلك الخبير متى ما طلب منهم. وبالفعل، منذ ذلك اليوم بدأ الجميع بإبراز المشكلات ومواطن الخلل، وحينما يسألهم الخبير عن مقترحاتهم لتحسينها كانوا يعّلقون بالآتي: “أنت من يتعين عليه وضع المقترحات وليس نحن.. فأنت الخبير”.  ومنذ تلك اللحظة لم يجد الخبير ما يتوجه به للمسؤول من توصيات للإصلاح أو التطوير، فصار يتخبط يميناً وشمالاً إلى أن وجده المسؤول مُفلسا لا يملك ما يقدم للدائرة.

والسؤال هنا: هل عاد المسؤول بعدها لصوابه واصبح يعتمد على موظفيه؟؟؟