+A
A-

“أشوف شي ما تشوفونه”... عقدة بعض المديرين (الحلقة الأولى)

رغبة العامل في العمل تأتي بوجود معنويات عالية

الدافع لإنتاجية الموظف مرتبط بشكل مباشر بمعنوياته

منذ الوهلة الأولى لتسلّمه منصب المدير وهو يتحدث عن القيم والأخلاق

يحض العاملين عن السلوكيات الواجب التحلي بها

رأوا فيه قدوة ومثالا يحتذى وأنموذجا رائعا للمدير العصري

وجدوه شفافا في بعض أمور العمل وغامضا في بعضها الآخر

 

تنشر “البلاد” على حلقات كتاب نبيل آل محمود “قبل أن تتهاوى” والذي يتضمن مجموعة دروس عن الممارسات الإدارية المتبعة بالقطاعين العام والخاص. الكتاب يقدم حقائق وممارسات تفاعلية في علمي الاجتماع والسيكولوجيا. ويُعالج تحديات الأداء والإنتاج والإنتاجية والسلوكيات والممارسات الإيجابية والسلبية والأساليب الإدارية المتعددة وآليات قياس الأداء والتنافسية والمخاطر والقيم المؤسسية وأخلاقيات المهنة. ويترك للقارئ مؤشرات الحلول التي تقوده للتوصل إليها من خلال سيناريو الموضوع ذاته؛ وذلك من أجل تدارك ما يمكن تداركه قبل أن تتهاوى، وهو سر عنوان الكتاب.

• لماذا يبدأ الموظف عمله في المؤسسة بمعنويات عالية ثم تنحدر معنوياته مع مرور الأيام إلى أدنى مستوياتها، وربما يصل به الحال إلى حد التذمر من العمل؟

• لماذا تتسرب العمالة الوطنية من المؤسسات، خصوصا الصغيرة منها والمتوسطة، وتتنقل من مؤسسة إلى أخرى، أما بفقدانها جو المتعة في العمل أو بسبب زيادة بسيطة في الراتب؟

سؤالان موجهان بصورة خاصة للإدارة العليا بكل مؤسسة، حيث التخطيط ووضع الحلول وصنع القرار.

إن رغبة العامل في العمل تأتي بوجود معنويات عالية، والمعنويات العالية هي نتيجة لرضا العامل بوظيفته (Job Satisfaction) والبيئة المحيطة به، وتأتي استمرارية هذه المعنويات من خلال خلق جو من المتعة داخل المؤسسة، وجو المتعة هو محصلة لتنفيذ سياسة التمييز والمكافآت.  إن عدم اتباع سياسة التمييز والمكافآت للموظفين والعمال من قبل إدارة المؤسسة لـه دور أساسي ومؤثر في مشكلة التسرب والتنقل، حيث ينعكس فقدان هذه السياسة على جو العمل لخلوه من عامل التحفيز الذي يميز عاملا عن آخر ويكافئ موظفا لأدائه المتميز عن الآخرين وهكذا.

إن الدافع لإنتاجية الموظف العالية والاستمرارية فيها لا يأتي من عدم، بل هو مرتبط بشكل مباشر بمعنوياته التي لا يمكن أن تبقى مرتفعة بمجرد استلامه لراتبه الشهري (المتدني بمقارنة بالمؤسسات الكبرى) منذ التحاقه بالعمل، ومن ثم تؤثر سلبا على ارتباطه بالمؤسسة وولائه لها.

وتتمثل سياسة التمييز والمكافآت في أشكال متعددة، يعتبر أدناها مصافحة العامل وشكره على إنجازه العمل وتميزه من قبل الإدارة. وفي حالاتها الأخرى تتمثل في تخصيص هدايا للموظفين توزع على حسب نوعية الإنجاز، أو مبالغ مالية يكافأ بها العامل المتميز والمنتج مما يعطيه دفعة لتقديم الأفضل.

من خلال زياراتنا الميدانية لبعض الشركات الصناعية في المملكة المتحدة، ومن خلال التقائنا بممثلي الإدارة لتلك الشركات، لاحظنا تنوع أساليب التقدير والتمييز المتبعة لديهم والتي تم على أساسها الحد من تنقل العمالة وضمان ولاء واستمرارية العامل معهم مع ضمان الحصول على افضل مستوى لإنتاجيته.

وفيما يلي نسرد بعض  الأساليب المتبعة هناك:

• تنظيم رحلات ترفيهية للموظف / العامل المتميز بصحبة عائلته في إجازة نهاية الأسبوع.

• تنظيم حفلات ترفيهية للموظفين أو لفريق العمل المتميز بعد اختيار المكان المناسب لذلك.

• منح العامل المميّز كوبون مشتريات مخفضة الأسعار من المؤسسات التجارية بالتنسيق مع تلك المؤسسات.

• كتابة عمود شكر وتقدير عن الموظف / فريق العمل المتميز في نشرة الشركة الدورية (إن وجدت) أو عمود تقدير يتم نشره على الشاشات الالكترونية للشركة، مما يتيح لزملائه قراءته، ومن ثم تحفيزهم لتحقيق الإنجاز ذاته أو افضل منه.

• ابتعاث المتميز في عمله لدورات تدريبية في مجال تخصصه كمكافأة على إنتاجيته.

• ابتعاث المتميز في أدائه للالتحاق ببرامج أكاديمية في نطاق عمله، ثم يكافأ أيضا بعد اجتيازه البرنامج بالترقية أو ما يعادل ذلك.

• تنظيم تجمعات لموظفي الشركة كافة بشكل دوري في إحدى الأماكن الترفيهية وبحضور الإداريين باختلاف مستوياتهم، وذلك لإبقاء علائق الزمالة فيما بينهم وتأكيد قيمتهم لدى إدارة الشركة، مما يضفي جوا من المودة بينهم وبين الإدارة.

وهناك آليات أخرى متعددة وحلول إدارية مختلفة لمشكلة تنقل العمالة في المؤسسات البريطانية قد لمسناها بأنفسنا، إلا انه إيمانا منا بضرورة الاستفادة مما يتماشى مع تعاليم ديننا ومجتمعنا وقيمنا.

اخترنا ما تم ذكره، ونحن على علم بأن بعض هذه الأساليب يتم تطبيقها محليا، ولكن من قبل المؤسسات الصناعية الكبرى في الدولة فقط.

ونشير هنا إلى أن التقدير والتمييز لابد أن يأتي من جانب الإدارة العليا أو الوسطى في المؤسسة على أقل تقدير، حيث يعكـس ذلك اهتمام الإدارة بمنتسبيـها على اختــلاف مستوياتهم، الأمر الذي يترك أثرا طيـبا في نفوسهـم. ونختم بالاستشهــاد بنظرية العـالم “ماسلـو” المسمّاة هرميـة الحاجــات (Maslow’s hierarchy of needs) والتي عَـبّـر عن إحداها بحاجة الموظفين للتقدير حيث قال: “مع أن الموظفين محفزون ومقدرون ذاتيا، إلاّ أنهم يحتاجون إلى التقدير من قِبـَل مسؤوليهم”.

 

موظفون يذكرون مسؤولهم الغامض: الإدارة ممارسات وليست مواعظ

لمسوا منه إساءة الظن عند حكمه بخلافات زملاء العمل

منذ الوهلة الأولى لتسلّمه منصب المدير وهو يتحدث عن القيم والأخلاق، ويعظ العاملين معه بكل ما أوتي من علم ومعرفة عن السلوكيات الواجب التحلي بها من جانبهم لتشريف إدارتهم، يُذكّرهم بين حين وآخر بما يجب وما لا يجب، ما هو مقبول وما هو مرفوض، ما يؤثـّر في روح المؤسسة وما يؤثـّر عليها، ما يدفعها للأمام وما يجرّها للخلف، وأخذ يُشعرهم بأهميتهم كموظفين ويُنـوّه بالكثير مما سمعه عن كفاءتهم منذ قدومه المؤسسة وذلك اتباعاً لأسلوب “كيف تجعل الآخرين يحبونك سريعا“ (How to make people like you instantly) للكاتب ديل كارنجي.

وقد تأثر به موظفوه منذ البداية، ورأوا فيه قدوة ومثالاً يُحتذى وأنموذجا رائعا للمدير العصري ذي الالتزام الأخلاقي والإداري، وأصبح مَضربا للمثل كل ما تحدثوا عن المثاليات، ومَرجعا معتَمَدا متى ما استشهدوا بأمرٍ ما، وفاصلا متى ما اختلفوا في قضايا العمل.. فأحبه الجميع، واحترمه الجميع، وتبعه الجميع طواعية.

بعد شهره الأول، اجتمع هذا المدير مع مرؤوسيه وبيـّـن لهم أسلوبه في العمل بوضوح من خلال قائمة مكونه من “سبعة بنود” لتكون لهم نبراسا وموجّها ومحفّزا لإنجاز المهام وإنجاح مسيرة الإدارة:

البند 1: اتباع الشفافية والصراحة في تعاملهم معه ومع بعضهم البعض، ونبذ السرية والمواراة والكتمان.

البند 2: حسن الظن والثقة ببعضهم البعض والتروّي بالحكم على الطرف الآخر.

البند 3: تنفيذ قراراته عن قناعة وإن اختلفوا معه.. باعتباره قائدا للمجموعة وتجنبا لإعاقة  العمل.

البند 4: العمل بروح الفريق ونبذ الفردية في إنجاز المهام.

البند 5: سرعة إنجاز المهام.. فلا  تباطؤ ولا تعطيل وتأجيل.

البند 6: الرجوع إليه وأخذ مشورته في كل أمور العمل قبل الشروع في التنفيذ.

البند 7: وضع التغيير الدائم نُصب العين.. فلا نجاح دون تغيير في الإنتاج والإنتاجية، ولا استمرارية للنجاح دون استمرارية في التغيير والتطوير.

اقتنع الجميع بمضمون تلك البنود، واتفقوا عليها، وأجمعوا على تنفيذها انطلاقا من إيمانهم بما ورد بها وكذلك إيمانهم بالشخص الذي أطلقها. وبروحٍ عالية بدأوا بتنفيذ  كل ما جاء بها بدقة وحماسة.

ولم يكن هناك ما يعوق، وسار كل شيء كما أراد الجميع، حيث كانوا يتسابقون ويتنافسون في تطبيق مضامين البنود.

إلاّ أنه بعد فترة لم تكن بالقصيرة بدأ العاملون يلاحظون أموراً غريبة على مسؤولهم، حيث وجدوه شفافاً في بعض أمور العمل وغامضاً في بعضها الآخر. لمسوا من جانبه إساءة الظن عند حكمه في أمور الخلاف بين الموظفين والزبائن دون تحقيق دقيق في قضاياهم انطلاقا من مبدأ “الزبون دائما على حـق”.

تنبـّهوا بأنه يقودهم لقبول بعض القرارات التي تخدمه شخصيا، ولكنها لا تخدم مصلحة العمل أو مصالحهم. اكتشفوا أسلوبه بإشراك الفريق في المهام الاعتيادية والعمل بفردية في المهام الحساسة. كذلك تبين لهم عدم جدوى سرعة إنجاز المهام الموكلة إليهم من قِبَله، فهو يدفعهم لسرعة الإنجاز، ثم تُعتـَّق التقارير في مكتبه قبل أن تُعتـَـق. وأيضا لاحظوا رجوعه إليهم في صغائر الأمور للمشورة، واتخاذ القرارات الفردية في كبائر أمور العمل. وأخيرا سئموا نداءه بتطبيق سياسة التغيير دون السعي لإثارة الجو المناسب من ناحيته سلوكيا ومن ناحيتهم تأهيليا وتدريبيا أو بتحسين مقومات العمل ذاته.

عندئذٍ قرروا مواجهته لإبداء ملاحظاتهم لعلـّهم يجدوا جوابا يُبدد ظنونهم. فما أن انتهـوا من سرد التناقضات التي عكستها ممارساته حتى أجابهم بطريقة “مختصر مفيد”، حيث لم يتعدّ جوابه “أنني أرى شيئاً لا ترونه أنتم..فأنا المدير”.

عندها فقط تيقنوا من التوائه على جميع القيم والأسس التي أطلقها بنفسه. فشـاع بينهم جو من الإحباط وأصيبت معنوياتهم بانتكاسه وانقلبت حماستهم إلى شلل فكري أثر على أدائهم وإنتاجيتهم، وبدأت الصورة الرائعة لذاك المدير في التداعي وتهاوى الرمز الذي جعلوا منه قدوةً وأنموذجا. وبالرغم من إيمان العاملين بكل ما جاء في البنود السبعة، إلاّ انهم قرروا إبلاغه بطريقة ما بأنه لا أسهل من إطلاق المواعظ والمثاليات وترجمتها في شكل أساليب وقواعد إدارية، ثم صياغتها في هيئة بنود لتسيير الآخرين، ثم الالتواء عليها من جانب مؤسسها اتباعا لأهوائه.

لذا أقدموا على تأسيس قائمة جديدة تتضمن بنودا سبعة توازي بنوده السبعة في العدد وتناقضها في المضمون، ثم وضعوها على لوحة إعلانات المؤسسة لكي يراها الجميع بما فيهم هو:

البند 1: السرية في العمل هي من أهم أسباب النجاح؛ منعا لتسرّب المعلومات وتفشّي الشائعات، فقد قال رسولنا الكريم: “استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان”.

البند 2: حسن الظن والثقة المطلقة تُعد من السذاجة والغفلة ، فالحذر والحيطة واجبان في التعامل مع الآخرين، وفي بعض الأحيان يكـون “سوء الظن من حُسن الفطن”.

البند 3: تنفيذ القرارات بقناعة يحتاج أولاً لاستيعابها وتقبّلها على أساس خدمتها لمصلحة العمل، قال تعالى: “ولا تَقفُ ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا”.

البند 4: إن التحدث بلغة روح الفريق باستمرار ينزع الإحساس بالمسؤولية والاعتماد على النفس ويدعـو للاتكالية على الآخرين، وقد قيــل:

“ما حك جلدك مثل ظفرك    فتــولّ أنـت جميع أمرك”.

البند 5 كل مهمة تختلف عن مثيلاتها، فكلٌ لــه مُدخلاته ومُخرجاته، ووضع السرعة كمقياس للنجاح قد يكون على حساب الجودة في النهاية، والحكمة تقول “مع العَجَــل يَكثـُـر الزَّلل”.

البند 6: إن المشــورة عمليــة متبادلة ذات اتجاهـين “أسفــل – أعلــى  bottom-up  “و ”أعلى - أسفل top-down “ وليست مقصورة على فرد أو منصب أو مستوى وظيفي، لذلك قال سبحانه:  “وشاورهم في الأمر” وكذلك قيل:

“شاور سواك إذا نابتك نائبــة     يوما وإن كنت من أهل المشورات”.

البند 7: إن التغيير في الإنتاج والإنتاجية يأتي بعد التغيير في السلوك والمهارة والعقلية وليس يأتي من عدم، فقد قال عز وجل: “إن الله لا يُغـــيّر ما بقوم حتى يُغيّـروا ما بأنفسهم”.

ثم ذيلوا قائمة البنود السبعة بملوحظة ذكروا فيها: إن الإدارة أسلوب ومهارة، وهي بالدرجة الأولى ممارسات لا مواعظ، فكن متعظا قبل أن تنصّب نفســـك واعظــا، فقد قال عز من قائل: “كَـبُر مقتاً عند الله أن تقولــوا ما لا تفعلون”.