حين اختار ابني الصغير دراسة تخصّص علوم الرياضة في جامعة خاصة بإسبانيا، تفاجأ الكثير من أصدقائي وعاتبني بعض زملائي، وربّما سخر منّي بعض أفراد العائلة، لكنّني كنت قد وعدت ابني منذ سنوات ألا أجادله في اختيار تخصّصه الجامعي، ووعدني أن يبذل قصارى جهده من أجل النجاح بتفوق.
ومرّت السنوات الأربع وكأنها أربع دقائق، وحصد كريم ابني، ابن جيله وعصره وتفكيره، ثمار تعبه، ها هو اليوم يتخرّج ويستعد لدراسة الماجستير العام القادم بإذن الله، لقد كان بإمكان كريم دراسة أحد التخصصات الكلاسيكية وعلى رأسها الطب أو الهندسة أو غيرها، لكنه اختار طريقا مغايرة، اختار الرياضة.. قد لا تكون في نظر جيلنا الخيار الأمثل، أو الخيار الذي يستحق كل هذا العناء والتعب، ولكن جيل ابني جيل مختلف، جيل يفكر خارج الصندوق، جيل ينظر إلى الغد إلى المستقبل من منطلقاته وقناعاته، من احتياجات يومه وزمانه، جيل يحترم تلك المهن الكلاسيكية، ولكن لا يقدسها، إنّما يفكر في غيرها.. اليوم أرى غرسي يثمر، وليس أسعد من أن يرى الإنسان غرسه يثمر، اسألوا الفلاح عن إحساسه حين يرى الأشجار يانعة، واسألوا النجّار حين يرى ما صنعه قد اكتمل واستوى، واسألوا كل أب تعب ثم رأى حصاد ما زرعه ماثلًا أمامه.
وتستمرّ الرسالة، رسالة الأب في المتابعة والتوجيه، ورسالة الابن في خوض معترك الحياة المهنية، ومراكمة تجاربه العملية ومضاعفة جهده لغد أفضل رسمه لنفسه ووطنه.
ليست الحياة المدرسية أو الجامعية كالحياة المهنية؛ ففيها يتعلم المرء أضعاف ما تعلمه بين أسوار المدارس والجامعات التي مكّنته من اعتراف رسمي بقدراته العلمية، لكن مدرسة الحياة المهنية ستعلمك وتدربك حتى تمكنك من اعتراف فعلي بقدراتك العملية وكيفية إدارة علاقاتك داخل المؤسسات وخارجها، ستعلّمك كيف تصنع ذاتك.
لهذا ستظل يا بني تتعلم طول الزمان، وما المدرسة أو الجامعة إلا مرحلة قصيرة، ومدرسة الحياة المهنية مشرعة الأبواب تدخلها وأنت في مقتبل العمر، وتظل فيها متعلمًا متدربًا تقومك الهفوات وتصقلك التجارب حتى تحقق أهدافك.
وفي الأثناء ستظل مشاعر الفرح والحيرة والقلق والتفاؤل والخوف والترقب تساور ذلك الأب.. لكنه على يقين بأنّ الله سيجازي كل مجتهد.
(حين ترى غرسك يثمر) كان عنوان مقال لي منذ أربع سنوات كتبته بمناسبة تخرج ابني (أشرف) من جامعة البحرين، واليوم رأيت غرسا آخر لي يثمر، رأيت (كريم) وقد وَفى بما وعد، وحصد تعب السنين بعيدًا عن عائلته، رأيته يتخرّج اليوم 4 يوليو 2025، فكأنني وُلدتُ يوم تخرّجه.
*كاتب تونسي ومدير تحرير مجلة البحرين الخيرية