العدد 6069
الثلاثاء 27 مايو 2025
banner
الـ “شات جي بي تي”!
الثلاثاء 27 مايو 2025

“اللهم اجعل كلامنا خفيفًا عليهم”، هؤلاء الذين يستخدمون الـ “شات جي بي تي” ويسمحون له بأن يستخدمهم، “اللهم أنت الخالق الوهاب، الواحد الأحد، الذي علم الإنسان ما لم يعلم، وأنت المطلع العليم، والغفور الرحيم”، أن تجيرنا عندما يضل الإنسان طريق الصواب، وتفقد المخلوقات بوصلتها وهي في منتصف الطريق. “علّم الإنسان ما لم يعلم”، و “علّم آدم الأسماء كلها”، و “ما أوتيتم من العِلم إلا قليلاً”، هكذا يعلمنا الله جل وعلا ألا نضل، وأن نصل بسلطان، وأن نسبر أغوار الكون بدليل وبرهان.
القراءة علمتنا الكتابة ونحن علمناها لـ “الشات جي بي تي”، الكارثة أن بعضنا يأخذ عنها، أي عن هذه التقنية المستنبطة من الذكاء الاصطناعي، وهي قضية فارقة محمودة، مُعِينَة لنا عندما يبحث بعضنا عن بعض، وحينما نفقد بوصلة التواصل مع بعضنا البعض، ولكن أن يأتي إلينا من ليس فينا ويدعي أن ذلك هو من كنا نبحث عنه – (يعني أن الطفلة التائهة في الغابة الموحشة يمكن أن يأتي إلينا بمثلها ويدعي أنها الطفلة المفقودة) – هو ما نخشاه من الذكاء الاصطناعي، بالأحرى من مستخدمي الذكاء الاصطناعي، من الذين قرروا أن يستريحوا على الأرائك ويطلبوا الـ “شات جي بي تي” أن يكتب لهم مثلما يكتبون، أن يقوم بأعمالهم نيابة عنهم مثلما كانوا يفعلون، وأن ينتحل أقلامهم وأفعالهم وأساليبهم وكتاباتهم مثلما كانوا يكتبون.

الكارثة أن نترك الحرية لهذه التقنية “الرائعة” بأن تكون بديلاً عنا في التعبير عن فكرة، أو عند إلقاء كلمة في مؤتمر أو ندوة أو فعالية. الكارثة أن الشخص الذي قرر عدم الاعتماد على نفسه تمامًا، لو كان يسعى للإعلان عن حدث جديد، عن قرار لم يسبق له التواجد على الشبكة الجهنمية، عندها سيضطر إلى الاعتماد على نفسه، إلى العودة لسابق عهده في زمن الكتابة، وعندها فإن زمن الكتابة قد لا يعود إليه على قاعدة من تركني سأتركه، ومن لم يقم لي وزنًا لن أقيم له مقامًا، ومن تركني عندما كنت ملْكًا له، طبعًا في يده، قلمًا في محبرته، خادمًا في بلاطه، مطيعًا في محرابه.
“أنا لن أعود إليك مهما استرحمت دقات قلبي، أنت الذي بدأ الملامة والصدود وخان حبي”، على قاعدة شاعر قصة الأمس الكلثومية الراحل الكبير أحمد فتحي. هنا لابد أن نعيد حساباتنا، أن نستعين بالذكاء الاصطناعي أو بالتقنية المذهلة المسماة “شات جي بي تي”، لا يهم، المهم ألا نستبدل أنفسنا بها، وألا نجعلها تضيعنا وتحل مكاننا، وتسرق منا طموحنا.
إن أسلوب هذه التقنية معروف وبسيط وسهل اكتشافه، أي أن الذين يحاولون الضحك على ذقون القراء، ويضعون أسماءهم على مقالات أو بحوث أدبية، أو استطلاعات للرأي، وهي في الأساس من “عمايل” الـ “شات جي بي تي”، أقول لهم: لعبتكم باتت مكشوفة، فأسلوب هذه التقنية سردي مباشر، محصن بالمعلومات ومدجج بالأرقام، وفي كل مرة نستعين به لكي يقلد أحدا منا، فإنه يقع في المطب نفسه.
صحيح أن علماء التقنية وجهابذة المستقبليات يؤكدون أنها مجرد مسألة وقت ويستطيع الـ “شات جي بي تي” أن يكتب شعرًا ونثرًا ورواية ومقالا احترافيا، وصحيح أن هذه المقبلات التي يأتي بها هذا الذكاء إلينا قد تصيبنا بالإحباط، إلا أن الأكيد هو ما يمكن أن يدفعنا إلى التفكير العميق الذي يحظى به بعض المبدعين بتطوير إبداعاتهم الإنسانية، وإنتاجهم البشري، وأن تكون تقنية اكتشاف الـ “شات جي بي تي” عاملاً مساعدًا في تسهيل الحصول على الإحصائيات والمعلومات الأرشيفية الضرورية الموجودة، والسؤال: إذا لم تكن هذه المعلومات موجودة أبدًا، فإن المصدر الوحيد القادر على امتلاك خاصية تخزين المعلومات هي ذاكرة الإنسان وحدها، هو الذي يجتر ذكرياته من صندوق ماضيه القريب والبعيد، وهو الذي يؤرخ لها، وهو الذي يستطيع توظيفها.
رغم هذا أو ذاك، الصراع بين الإنسان والآلة، بين الرقم الافتراضي والعدد الفعلي، بين الأصلي والشبيه، سيظل موجودًا حتى لو اخترع الإنسان الآلي إنسانًا طبيعيًا وجاء به ذات يوم إلينا قائلاً: لقد خلقتك مثلما خلقتني، فجميعنا من خلق الله.

كاتب بحريني والمستشار الإعلامي للجامعة الأهلية

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .