اختتم الرئيس الأميركي دونالد ترامب قبل يومين جولة مهمة، يمكن وصفها بـ “التاريخية”، شملت ثلاث عواصم عربية خليجية: الرياض والدوحة وأبوظبي، وتميزت بطابعها الاستثماري والتجاري الواسع، لكنها في الوقت نفسه أظهرت رغبة واشنطن في إعادة تأكيد التزاماتها الأمنية والسياسية تجاه حلفائها الخليجيين في لحظة إقليمية حساسة تتطلب وضوح الرؤية واستقرار التوازنات.
ولم تكن الزيارة تقليدية، بل شكلت محطة مفصلية في مسار العلاقات الأميركية الخليجية، وكشفت عن تحوّلات عميقة في مفهوم التحالفات والشراكات الدولية. فدول الخليج، بمواردها وخططها التنموية الطموحة، لم تعد مجرد ساحات نفوذ تتنازعها القوى الكبرى، بل تحوّلت إلى أطراف فاعلة في رسم خرائط الاقتصاد العالمي وصياغة التوازنات الجيوسياسية.
وقد أجاد الرئيس ترامب توظيف هذه الزيارة لتدعيم صورته كصانع صفقات وقائد اقتصادي بعد أن عاد إلى واشنطن باتفاقيات تعاون بين الولايات المتحدة والدول الثلاث تتجاوز قيمتها ثلاثة تريليونات دولار، وهي اتفاقيات في حال تنفيذها ستحدث نقلة نوعية فارقة في القدرات الأمنية والدفاعية والتكنولوجية لهذه الدول، وستدفعها إلى آفاق متقدمة جدًا في مجالات النقل والطاقة والذكاء الاصطناعي أيضًا.
ومن الواضح أن المحطة الأهم في جولة الرئيس ترامب الخليجية كانت، بلا منازع، زيارته إلى العاصمة السعودية الرياض، التي لم تقتصر على توقيع اتفاقيات التعاون الثنائي غير المسبوقة، بل اتسعت لتشمل حدثًا سياسيًا بارزًا تمثّل في عقد قمة خليجية - أميركية جمعت قادة دول مجلس التعاون الخليجي بالرئيس الأميركي. وقد شكّل انعقاد القمة في هذا التوقيت دلالة واضحة على متانة العلاقات الأمنية والسياسية بين الجانبين، وعلى مكانة السعودية كمحور مركزي في التنسيق الخليجي مع واشنطن.
وقد كانت مشاركة مملكة البحرين في هذه القمة لافتة ومميزة بحكم احتضانها مقر قيادة الأسطول الخامس الأميركي، وهو ما يمنحها ثقلًا استراتيجيًا في معادلة الأمن الإقليمي. كما أنها الدولة الخليجية الثانية، بعد الإمارات، التي وقّعت على الاتفاق الإبراهيمي في عهد الرئيس ترامب خلال ولايته الأولى؛ ما يعكس مستوى متقدمًا من التقارب السياسي والدبلوماسي بين البلدين.
وفي الرياض بشكل خاص، وفي أجواء رسمية احتفالية حافلة بالدلالات السياسية والرمزية، استقبلت المملكة العربية السعودية الرئيس الأميركي في زيارة تعكس مكانة الرياض المتنامية على الساحة الدولية، وتجسد اعترافًا عالميًا بالدور الجديد الذي تلعبه السعودية في صياغة ملامح النظام الدولي، ليس فقط في محيطها العربي والإسلامي، بل على مستوى العلاقات الدولية وملفات الأمن العالمي.
ومنذ أن تولّى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود مقاليد الحكم في العام 2015، بدأت المملكة تتحول تدريجيًا إلى قوة إقليمية وازنة ذات تأثير مباشر في قضايا العالم الحيوية، مدفوعة برؤية استراتيجية طموحة وإصلاحات جذرية يقودها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. وقد بدت ملامح هذا التحول جلية في المشهد السياسي والاقتصادي السعودي، خصوصًا مع نجاح المملكة في تنظيم واستضافة مباحثات حساسة بين القوى العظمى، كما حدث مؤخرًا في اللقاء الأميركي - الروسي الذي احتضنته الرياض لبحث مآلات الحرب الأوكرانية. وهو إنجاز دبلوماسي يعكس حجم الثقة الدولية بالرياض، وقدرتها على التوسط والبناء في مرحلة من الاستقطاب العالمي الحاد.
هذا الدور السياسي اللافت لم يكن ممكنًا لولا ما يتمتع به ولي العهد السعودي من صفات قيادية وشخصية سياسية محنكة، حيث أظهر الأمير محمد بن سلمان قدرة عالية على إدارة العلاقات المعقدة مع القوى الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية. وقد بدت العلاقة الشخصية بينه وبين الرئيس ترامب خلال الزيارة الأخيرة دافئة ومليئة بالإعجاب المتبادل، إذ لم يتردد ترامب في الإشادة بقدرات ولي العهد، واصفًا إياه بأنه “رجل رؤية وشجاعة”، مؤكدًا أهمية الشراكة السعودية - الأميركية في تعزيز الأمن والاستقرار العالمي.
ولعل من أول وأبرز النجاحات التي تحققت على يد الأمير محمد بن سلمان وأسست لمكانته الدولية، قدرته على ضبط التوازنات الداخلية في المملكة، حيث قاد حملة إصلاحات جريئة أعادت ترتيب أولويات الدولة السعودية الحديثة. فقد نجح في تقليص نفوذ الجماعات المتطرفة وتصدى بصلابة لأفكارهم وتجاوزاتهم، كما أعاد تنظيم هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما يتماشى مع روح العصر ومتطلبات الدولة الحديثة.
وفي خطوة لا تقل أهمية عن مجابهة التطرف، أطلق الأمير محمد بن سلمان حملة واسعة لمكافحة الفساد شملت شخصيات نافذة من الأسرة المالكة والقطاعين العام والخاص. وقد شكلت هذه الحملة نقطة تحوّل كبيرة في مسيرة الدولة، وأعادت الثقة في مؤسساتها، ورسخت مبدأ المساءلة وسيادة القانون؛ ما أسهم في خلق مناخ استثماري أكثر شفافية وجاذبية.
اقتصاديًا، انطلقت السعودية بسرعة مذهلة نحو التنويع وتقليص الاعتماد على النفط من خلال رؤية 2030 التي يقودها ولي العهد. هذه الرؤية الطموحة لم تكن مجرد شعارات، بل تحوّلت إلى برامج عملية ومبادرات عملاقة، من أبرزها مشروع “نيوم” الحضاري، وتوسيع قاعدة الصناعات الوطنية، واستقطاب الاستثمارات الأجنبية، وتعزيز السياحة والثقافة والترفيه. وقد انعكس هذا الحراك الإصلاحي على معدلات النمو التي شهدت تحسنًا ملحوظًا، وعلى تصنيف المملكة في مؤشرات التنافسية الدولية.
كما مثّل الانفتاح الثقافي والاجتماعي علامة مشعة في المشهد السعودي، إذ فُتحت دور السينما، وأقيمت الفعاليات الرياضية والفنية الكبرى، واندمجت المرأة السعودية في سوق العمل بصورة غير مسبوقة، ناهيك عن الإصلاحات القانونية التي دعمت حقوقها ومكانتها في المجتمع.
وبينما شملت جولة ترامب عددًا من العواصم الإقليمية، فإن الرسائل التي حملها من الرياض كانت الأقوى، سواء من حيث الشكل أو المضمون. فالسعودية لم تعد فقط محورًا في سوق الطاقة أو حليفًا في ملفات الأمن الإقليمي، بل أصبحت لاعبًا رئيسًا في هندسة العلاقات الدولية، ووسيطًا نزيهًا في صراعات كبرى كالتي تشهدها أوكرانيا، وركيزة أساسية في صياغة نظام دولي جديد أكثر توازنًا.
إنّ زيارة الرئيس ترامب للمملكة، بكل ما حملته من مضامين سياسية واقتصادية، ليست سوى تتويج لمسار صاعد بثبات، يعكس عزم القيادة السعودية على ترسيخ موقعها كلاعب رئيس في النظام الدولي. فالمملكة لم تعد مجرد شريك نفطي أو حليف إقليمي، بل باتت قوة فاعلة تصوغ السياسات وتؤثر في القرارات الدولية الكبرى؛ بفضل قيادتها الحكيمة وإرادتها الإصلاحية ورؤيتها المستقبلية.
لقد دخلت المملكة مرحلة جديدة، يقودها جيل شاب واثق من أدواته ومتصالح مع واقعه ومستقبله. ويظل الأمير محمد بن سلمان، بقدراته القيادية وجرأته في اتخاذ القرار، أحد أبرز وجوه هذا التحول، بل مهندسه الأبرز.