تنضم البحرين اليوم إلى الأسرة الدولية للاحتفال والاحتفاء بعيد العمال العالمي، ففي الأول من مايو من كل عام، تتجدد الذكرى، وتتجدد معها القيم التي يحملها هذا اليوم العالمي العابر للحدود والأيديولوجيات: قيمة العمل، وكرامة العامل، وعدالة الحقوق، ومشروعية النضال من أجل بيئة عمل منصفة وآمنة. إنه يومٌ لا يُحتفى فيه بالإنجازات فحسب، بل يُستحضر فيه أيضًا ما تحقق وما ينبغي أن يتحقق لصون حقوق الإنسان العامل، الذي يُعدّ بحق الركيزة الأساس في بناء المجتمعات وتقدم الأمم.
في البحرين، يكتسب هذا اليوم طابعًا خاصًا، إذ يتقاطع مع محطات مهمة في مسيرة التقدم والإصلاح الوطني، وفي طليعتها صدور قانون النقابات العمالية لعام 2002، الذي مهّد الطريق أمام مرحلة جديدة من التنظيم النقابي والتوازن بين أطراف الإنتاج. ولعل من الإنصاف في هذا اليوم أن نستعيد تلك اللحظة المفصلية، لا كمجرد إنجاز تشريعي، بل كترجمة واقعية لإرادة سياسية واعية، آمنت بحقوق العمال وارتقت بها إلى مصاف المعايير الدولية.
كان يوم الثلاثاء 24 سبتمبر 2002 من الأيام السعيدة والمحطات المضيئة في مسيرة الإصلاح والنهضة الوطنية الشاملة التي أطلقها صاحب الجلالة الملك المعظم حمد بن عيسى آل خليفة، حفظه الله ورعاه، بعد توليه زمام الحكم.
في ذلك اليوم أقام جلالته مأدبة غداء في قصر الشيخ حمد بالقضيبية، تكريمًا لرئيس وأعضاء اللجنة العامة لعمال البحرين، وممثلي اللجان العمالية المشتركة، دعي إليها عدد من المسؤولين المعنيين، وقد كنت من بين المدعوين بصفتي وزير العمل والشؤون الاجتماعية وقتها، وفي هذا اللقاء أعلن جلالته إصدار “المرسوم بقانون رقم 33 لسنة 2002 بإصدار قانون النقابات العمالية”.
صفق جميع الحاضرين بكل حرارة وابتهاج لتلك الخطوة المفصلية المعبرة التي جاءت ضمن سلسلة من المبادرات والخطوات الملكية الهادفة إلى تعزيز أركان دولة المؤسسات وترسيخ منظومة “مؤسسات المجتمع المدني” التي تشكل الدعائم الأساسية للنظام الديمقراطي المنشود، حيث تعد النقابات والمنظمات العمالية والمهنية من أبرز وأهم مؤسسات المجتمع المدني.
وكانت المسودة الأولى للقانون قد تم إعدادها من قبل الدائرة القانونية بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية مع توجيه من جلالة الملك المعظم بضرورة أن يرتقي القانون إلى مستوى طموحات عمال البحرين، ويكون مواكبًا لمعايير العمل الدولية، خاصةً الاتفاقيتين الأساسيتين لمنظمة العمل الدولية: الإتفاقية رقم 87 لسنة 1948 بشأن الحرية النقابية وحماية حق التنظيم، والاتفاقية رقم 98 لسنة 1949 بشأن الحق في التنظيم والمفاوضة الجماعية، وأن ينسجم القانون مع التزامات البحرين الدولية، ويحقق التوازن المطلوب بين الحقوق العمالية ومتطلبات تنظيم سوق العمل ونموه، بما يعزز بيئة العمل الصحية والعادلة الداعمة للاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
وعند إعداد المسودة تم التنسيق والتشاور مع ممثلي العمال من خلال اللجنة العامة لعمال البحرين، وممثلي أصحاب الأعمال من خلال غرفة تجارة وصناعة البحرين، إلى جانب الاستعانة بخبراء من منظمة العمل الدولية، بعدها خضعت المسودة لمراجعة الأجهزة المختصة في الحكومة قبل أن تعرض على مجلس الوزراء لإقرارها ورفعها إلى جلالة الملك لإصدار القانون.
وقد شهدت المادة 21 من القانون نقاشًا واسعًا وتحفظات كثيرة، وهي المادة التي منحت العمال، لأول مرة، حق الإضراب عن العمل باعتباره وسيلة سلمية مشروعة للدفاع عن مصالحهم الاقتصادية والاجتماعية، مع وضع ضوابط تنظيمية محددة، وفي نهاية المطاف سادت المصلحة الوطنية وتمت الموافقة على المادة ضمن القانون.
لقد شكل قانون النقابات العمالية لعام 2002 علامة فارقة في البيئة التشريعية العمالية البحرينية، ورسخ التزام المملكة بمبادئ العمل اللائق وفق معايير منظمة العمل الدولية، مما عزز مكانة البحرين كدولة تواكب متطلبات العصر في مجال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. وقد تجسد هذا التقدير في رسالة تلقاها صاحب الجلالة، بعد صدور القانون، من المدير العام لمنظمة العمل الدولية، السيد خوان سومافيا، أعرب فيها عن تهنئته وشكره على هذا الإنجاز التشريعي البارز.
وشكل إصدار القانون أيضًا تتويجًا لنضالات الطبقة العمالية في البحرين، وتحقيقًا لطموحاتها الممتدة لعقود. فمنذ بداياتها، لم تتخلف هذه الطبقة عن مواكبة تطور المجتمعات، وكانت مطالبة الغواصين بتحسين أوضاعهم المعيشية عام 1919م أولى بوادر الحراك العمالي. كما شهد عام 1932م، مع اكتشاف النفط واتساع رقعة الطبقة العاملة، انطلاق أولى الدعوات لتأسيس نقابات عمالية في البحرين.
لقد كان المشرع البحريني ولا يزال حصيفًا عندما فصل بين العمل النقابي والعمل السياسي، بل إنه زاد من حرصه على سلامة العمل النقابي ونقائه بمنع النقابات العمالية من الانخراط في العمل السياسي الحزبي؛ مستندًا في ذلك إلى الأصل العام للفقه الدولي وتجارب الدول التي تحصر الوظائف الأساسية للنقابات العمالية والمهنية في الدفاع عن المصالح الاقتصادية والاجتماعية والمهنية لأعضائها، وتنظيم العلاقة بين العمال وأصحاب العمل، وتحسين ظروف العمل والأجور والحماية الاجتماعية.
إن توجه المشرع البحريني في هذا الشأن ينسجم مع مبادئ منظمة العمل الدولية، التي وإن كانت لا تمانع في أن تُعبّر النقابات عن مواقف سياسية تتعلق بحقوق العمال أو السياسات العامة المؤثرة عليهم، فإنها في الوقت ذاته تحذّر من تحوّل العمل النقابي إلى نشاط حزبي، وتحول النقابات إلى أدوات حزبية، لما في ذلك من تهديد لاستقلاليتها ومصداقيتها. فبينما يُعد من المقبول أن تعارض النقابة قانونًا عماليًا مجحفًا، فإن تبنّيها أجندات حزبية أو تحولها إلى ذراع سياسي لأي جهة يُفقدها وظيفتها الأصلية ويعرضها للانقسام والتجاذب.
وعودة إلى مأدبة الغداء التي أقامها جلالة الملك المعظم، حفظه الله ورعاه، يوم الثلاثاء 24 سبتمبر 2002، تكريمًا لرئيس وأعضاء اللجنة العامة لعمال البحرين وممثلي اللجان العمالية المشتركة، فقد تضاعفت فرحة عمال البحرين وبهجتهم عندما أعلن جلالته استجابته لرغبتهم في تحديد يوم للاحتفال بعيد العمال البحرينيين، وإدراجه ضمن العطل الرسمية للدولة.
وقد طُرح في اللقاء اقتراح اختيار 24 سبتمبر، اليوم الذي صدر فيه قانون النقابات العمالية، إلا أن جلالته أمر بترك الخيار للعمال أنفسهم، ومنحهم فرصة للتشاور فيما بينهم.
وبعد أيام، رُفعت إلى جلالة الملك رغبة العمال في اختيار الأول من مايو، انسجامًا مع احتفال المجتمع الدولي بعيد العمال العالمي. واستجابة أخرى كريمة من جلالته، صدر المرسوم رقم 40 لسنة 2002 بإضافة الأول من مايو عطلة رسمية بمناسبة يوم العمال العالمي.
فألف شكر لجلالة الملك، وألف مبروك لعمال البحرين، وكل عام وانتم بخير.