العدد 6053
الأحد 11 مايو 2025
banner
ثروتنا المنسية: التنوع الذي حولناه إلى نقمة
الأحد 11 مايو 2025

في عالم يفرض علينا استمرار الانفتاح والتكامل والتعايش، ما تزال مجتمعاتنا العربية تتعثر أمام معضلة داخلية خطيرة لم نحسن بعد التعامل معها: التعدد والتنوع العرقي والمذهبي والديني والطائفي. وهو تنوع، لو أحسنا فهمه والتفاعل معه، لكان مصدرًا للغنى والقوة والنهضة، لا عبئًا ومصدرًا للتفكك والانقسام.
لقد حبانا الله بأرض تضم فسيفساء إنسانية مدهشة، من العرب والأمازيغ والأكراد والأرمن والشركس والسريان والبلوش، إلى جانب أتباع الديانات السماوية الثلاث - اليهودية، والمسيحية، والإسلام - وسواها من الديانات والمعتقدات. كما يستظل العالم العربي تحت شجرة الإسلام الوارفة، التي تتفرع منها مدارس فقهية وعقائدية متعددة، ففي الفقه السني نجد الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنبلية، وفي العقيدة نجد الأشاعرة، والماتُريدية، والسلفية. أما داخل التيار الشيعي، فتبرز الإمامية الاثناعشرية، والإسماعيلية، والزيدية، وتتشعب مرجعيات الإمامية بين النجف وقم، وبين الأصوليين والأخباريين.
هذه التركيبة الإنسانية المتميزة والغنية بتنوعها، النابضة بإرثها، الممتدة في عمق الزمن والحضارات، بدل أن تُصان وتُستثمر كثروة وكقوة ناعمة، تحوّلت في كثير من الأحيان إلى مصدر تهديد، وصارت تُعامل كأزمة لا كفرصة. فغلبت نوازع الإقصاء على الحاجة للاحتواء، وثقافة التخندق على قيم التعايش، وسيطر الخوف على إمكانات الثقة، وتغلغلت الريبة في المساحات المشتركة. فكان الناتج أن انشطر النسيج المجتمعي، وتحوّلت الهوية من فضاء جامع إلى خطوط تماس، وبدل أن نرى الآخر كرفيق، رأيناه كخطر يجب عزله أو احتواؤه أو إقصاؤه.
ولعلّ منطقة الشرق الأوسط من العالم العربي تقدم اليوم نموذجًا صارخًا لفشلنا في إدارة هذا التنوع. فمن سوريا إلى العراق، ومن لبنان إلى اليمن، ومن حلبجة إلى بيروت، تتكرر المآسي وتتوالى النكبات. ففي سوريا، عانى الجميع من الاضطهاد في فترات مختلفة: المسلمون السنة قبل الثورة، والعلويون بعد اندلاعها، والدروز اليوم، وكل طائفة أصبحت تستنجد بالخارج طلبًا للحماية من شركاء الوطن. وفي لبنان، انفجرت الحرب الأهلية بالعام 1975 نتيجة هشاشة التوازنات الطائفية، وتواصل بعدها الانقسام في ظل سطوة جماعات مسلحة طائفية على القرار الوطني.
أما في العراق، فقد شكل قصف حلبجة بالأسلحة الكيماوية في العام 1988 جريمة كبرى بحق الأكراد، بينما فتح الغزو الأميركي وما تبعه من فراغ سياسي الباب أمام عشرات الميليشيات الطائفية، التي شرذمت البلاد، وجعلت الانتماء الطائفي والعرقي مقدمًا على الانتماء الوطني.
وفي اليمن، أدى إقصاء مكونات مجتمعية أساسية إلى صعود الحوثيين وتمددهم؛ ما فجّر صراعًا داخليًا بأبعاد إقليمية. أما تنظيم “داعش” فقد مثّل الوجه الأكثر تطرفًا لإخفاق التعايش، حين ارتدى قناع السلفية المتشددة ليقتل ويهجر ويسفك دم كل من يختلف معه في المذهب أو العقيدة أو الانتماء.
إن هذه المشاهد ليست سوى تجليات لفكرة واحدة: إن التنوع حين يُدار بجهل أو تعصب، يتحول من نعمة إلى نقمة أو لعنة، ومن مصدر للقوة إلى أداة للهدم.
وقد أدت هذه الرؤية القاصرة إلى خسائر هائلة، فقد تلاشت فرص التكامل، وتآكلت الثقة، وتحوّلت ميادين الحوار إلى ساحات قتال رمزي أو حقيقي. ولا يمكن لمجتمع أن ينهض وهو ينكر جزءًا من ذاته، كما لا يمكن لأمة أن تبني مستقبلها وهي تمارس الإقصاء الممنهج ضد بعض أبنائها.
إن إدراكنا بأن التنوع سنة كونية لا مهرب منها، هو الخطوة الأولى نحو العلاج. فالوحدة المبنية على التعدد أكثر متانة من تلك التي تقوم على الإقصاء. والهوية الجامعة لا تُبنى بالذوبان في الآخر، بل بالاعتراف المتبادل والاحترام المتكافئ. فالزهو بالذات لا يكتمل إلا بقبول الآخر، والتنافس البنّاء لا ينمو إلا في ظل تعدد الرؤى والثقافات.
إننا في أمس الحاجة إلى منظومة قيم جديدة تُرسخ الانفتاح، وتعزز ثقافة التسامح، وتُكرّس الاعتراف المتبادل. لكن هذه القيم لا تنمو في فراغ، ولا تزدهر تحت سطوة الخوف. لا بد أن تستند إلى مبادئ العدالة التي تضمن المساواة في الحقوق والواجبات والفرص، وتكفل تمثيلًا مجتمعيًا حقيقيًا لجميع المكونات دون تمييز.
إن التعدد ليس خطرًا، بل فرصة. والتنوع ليس تهديدًا، بل طوق نجاة. لقد آن الأوان أن نتجاوز لغة التخوين والتخويف، ونبدأ بإعادة بناء جسور الثقة بين مكونات مجتمعاتنا. فالمواطنة لا تكتمل إلا بالعدالة، والانتماء لا يُثمر إلا في ظل الكرامة، والتعايش لا يُكتب له البقاء إن لم يُبنَ على الاحترام المتبادل.
والعدالة ليست مجرد بند قانوني، بل هي الإطار الأخلاقي الذي يُبنى عليه أي سلم اجتماعي دائم، دونها يتحول التسامح إلى هدنة هشة، والانفتاح إلى قشرة زائفة.
إن الأسئلة التي نطرحها اليوم ليست جديدة، لكن الأجوبة التي نتفاداها هي التي أخّرت خلاصنا: العدالة، الاعتراف، الاحترام، والانفتاح. هذه ليست شعارات مثالية، بل شروط بقاء.
فإلى متى نظل نخشى اختلافنا؟ متى نرى أن التنوع لا يهددنا بل يثرينا؟ متى نكف عن محاكمة الآخر، ونبدأ بمحاورته؟ ومتى ندرك أن أوطاننا لا تبنى بالحذر، بل بالشراكة، ولا تُحمى بالعزل، بل بالعدل؟
حين نصل إلى ذلك، فقط حينها، يمكن أن نحول ثروتنا المنسية إلى قوة حقيقية.

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .