في كل عام، تشارك مملكة البحرين المجتمع الدولي الاحتفاء بـ “اليوم العالمي لحرية الصحافة”، وفي كل عام يتجدد العهد وتترسخ العزيمة والإصرار على اللحاق والالتزام بالقيم الحقيقية لحرية الصحافة والتعبير، التعبير الصادق الأمين، والحرية المسؤولة بأبعادها الأخلاقية والمهنية والرسالية.
في البحرين، نحن لا ندّعي الكمال، ولا نزعم أننا بلغنا المدى المنشود من حرية التعبير، لكن ما نملكه هو الصراحة في التعامل مع هذه القيمة، والجدية في العمل على تعزيزها ضمن واقعنا السياسي والاجتماعي، بما يراعي خصوصيتنا ويحترم في الوقت ذاته المعايير المهنية العالمية. نعم، نطمح إلى تطوير التشريعات، وتعزيز استقلالية المؤسسات الإعلامية، وتوسيع هامش التعبير، لكننا لا نفعل ذلك تحت ضغط الشعارات أو مقايضة الصورة أمام الخارج، بل من منطلق داخلي وطني ينبع من قناعة راسخة بأن حرية الصحافة ركيزة ضرورية للتنمية والاستقرار والعدالة.
والتاريخ يقف شاهدًا على أن صاحب الجلالة مليكنا المعظم الملك حمد بن عيسى آل خليفة، حفظه الله ورعاه، وصاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد رئيس الوزراء، حفظه الله، يتصدران ويرعيان الجهود الوطنية نحو تحقيق وصون حرية الصحافة في مملكة البحرين، فجلالة الملك يحرص في كل عام، في يوم الاحتفال، على توجيه كلمة ملهمة ومشجعة لرجال الصحافة والإعلام؛ يشد بها من أزرهم، ويؤكد التزام الدولة الراسخ بدعم حرية الكلمة ضمن إطار من المسؤولية الوطنية والمهنية. بينما يولي سمو ولي العهد رئيس الوزراء اهتمامًا خاصًا بـ “يوم الصحافة البحرينية”، في السابع من مايو، من خلال تكريم نخبة من الصحافيين والإعلاميين بمنحهم “جوائز رئيس مجلس الوزراء للصحافة”، في مبادرة ترسّخ ثقافة التقدير وتعزز مكانة الصحافي في صميم المشروع الإصلاحي الوطني.
وبمثل هذه المبادرات وغيرها، تمضي القيادة البحرينية برؤية واضحة نحو توجيه دفة الإعلام الوطني بكل حيطة واتزان، في محيط مليء بالتحديات والمتغيرات، وفي عالم يختلط فيه الزيف بالحقيقة، وتتوسع فيه أساليب التضليل والتشويه والتعتيم المنهجي، ويختفي فيه الفارق بين المهنية والتوظيف السياسي.
أنظر، كمثال واحد فقط، إلى حال أشقائنا الفلسطينيين، وما حدث في غزة، وما يزال، من مجازر وجرائم وتصفيات عرقية، وصحافة العالم الحر تمارس “حرية الصمت”، بحيث بات المشهد الصحافي العالمي، في كثير من الحالات، ساحة واسعة للازدواجية والنفاق، تُمارَس فيها أقسى أشكال التستر والتواطؤ. تُغض الأنظار عن الجرائم والانتهاكات متى ما كانت تصب في صالح قوى نافذة أو أنظمة بعينها، وتُمنَح المنابر فقط لما ينسجم مع السرديات الرسمية أو يخدم مصالح القوى الكبرى. وهنا يبرز السؤال الجوهري: هل الصحفيون شركاء في هذه اللعبة؟ أم أنهم مجرد ضحايا لها؟
كثيرًا ما يتعذر التمييز بين الصحفي الذي باع قلمه طواعية، وبين ذلك الذي فُرضت عليه قيود الصمت والإذعان. بعضهم اختار أن يكون جزءًا من آلية التوجيه والتضليل، مدفوعًا بالطموح أو الخوف، بينما آخرون يكتبون تحت وطأة التهديد، أو ضمن شروط مؤسسية لا تتيح لهم التنفس بحرية.
في الحصيلة، تتآكل مكانة الصحافة كسلطة رقابية ورسالية، ويتحول الصحفي من “ضمير المجتمع” إلى مجرّد ناقل لما يُملى عليه. وتغدو المؤسسات الإعلامية، التي كانت تُعد حصونًا للحقيقة، أدوات صقيلة في يد السلطة، تنشر ما يُراد لها نشره، وتسكت عن ما يجب أن يُقال.
ولم يعد الإعلام مجرد ناقل للأحداث، بل أصبح أحد صُنّاعها، بل وأخطرهم. تُخاض اليوم الحروب بالكلمات والصور لا أقل مما تُخاض بالأسلحة والنيران. تُدار المعارك النفسية من استوديوهات وغرف الأخبار، ويُعاد تشكيل وعي المجتمعات عبر التقارير والبرامج والنشرات.
الآلة الإعلامية الحديثة تمارس ما يشبه “الهندسة النفسية”، تُنتج الوقائع وتُوجّه الإدراك، وتزرع الخوف أو الكراهية أو الخضوع، حسب المطلوب. والأدهى أن أكثر الجهات تورطًا في التضليل الإعلامي هي نفسها من تحتكر الحديث عن “حرية الصحافة” و “المهنية الإعلامية” فتغدو الصحافة واجهة أنيقة لخداع منظم.
وراء هذا المشهد، وفي الكثير من الدول التي تدعي التقدم، تقف الدولة الخفية: ذلك الكيان غير المرئي الذي لا يظهر في الصورة، لكنه يتحكم في تفاصيلها. إنه التحالف العميق بين مراكز النفوذ السياسية والمالية والأمنية، الذي يتجاوز الدولة العميقة بمفهومها الكلاسيكي ليشمل شبكات التأثير العابرة للحدود.
في هذا السياق، لم تعد الصحافة حرة، بل مشروطة وموجهة. يُحدَّد ما يُقال وما لا يُقال، لا بناءً على معايير مهنية، بل حسب حسابات السلطة والمصالح. وتُصبح غرف الأخبار امتدادًا ناعمًا لمراكز القرار، لا منصات حرة لصوت الناس.
ومع دخول الذكاء الاصطناعي إلى ميدان الإعلام، تعمقت اللعبة وتعقدت. فالخوارزميات لا تنقل الأخبار فحسب، بل تنتقيها وتُعيد ترتيبها وتُرجّح ما يُعرض منها وما يُخفى. وتُمارَس الرقابة الآن لا من قبل الرقيب البشري، بل من خلال أنظمة ذكية تبدو محايدة، لكنها تحمل في طيّاتها ميولًا مضمرة وبرمجيات مصمّمة على أساس مصالح وتوجهات معينة.
لقد أصبحت الخوارزميات هي الحَكم غير المُعلَن في معركة الرأي العام، تُقرر ما نراه، وما يُدفن، وما يُدفع إلى الصدارة. وهكذا، تتحول حرية الصحافة إلى وهم رقمي، تتحكم فيه آلات لا تُحاسَب، لكنها تُشكّل العقول والتوجهات.
وفي ظل هذا المشهد المربك، لم تعد حرية الصحافة مسألة أخلاقية أو قانونية فحسب، بل أصبحت قضية وعي وبقاء. لم تعد المسألة “ماذا نعرف؟” بل “من يُقرر ما نعرفه؟” و “من يملك سلطة حجب الحقيقة أو تشويهها؟”.
لقد تحولت حرية الصحافة في الغرب على سبيل المثال إلى خديعة كبرى، تُرفع كشعار وتُمارَس كنقيض. وإذا لم يُطرح السؤال الجاد: من يُمسك بالميكروفون؟ ومن يُمنع من الوصول إليه؟ فسيظل احتفالنا بحرية الصحافة مجرد طقس سنوي، نُردده ونحن نغض الطرف عن الحقيقة، أو ندفنها تحت ركام الشعارات.