الليل يرخي ستاره بعد يوم عزاء طويل وشاق، ونحن جلوسٌ في حسينية العوامي نتقبل المواساة في ياسين الذي هجعَ على كتفِ أخيه في الرياض، ليتفطرَ قلبُ والدته في القطيف! لم يكن السيد الفارع طولًا، الملازم على المشي عند صخور البحر هو المُنتظرُ، بل كانت أخته صديقة، صاحبة الابتسامات العالية والقصص التي تنثر الفرح في الأجواء؛ فجأة، أتاها المرض كرمحٍ مزق الجسد، ململمًا خيوط الشمس المشرقة، فيما الأيام ثقيلة على الجميع، ينتظرون ساعة لا مفر منها.
إلا أن ياسين، فاجأنا كلنا، فدلفنا إلى عزاء، ربما كثرٌ من العائلة جراحهم لا تزال إلى اليوم طرية. كنت أتكئ في مجلس أخوالي، وكفي لا تزال مبلولة بأكف من جاء لمواساتنا. يرنُ هاتفٌ لم أكد أرفعه حتى هبط الألم على الألم، وانطبقت سماوات من وجع، سأكون صريحًا إن قلت إنه وشم لا أستطيع محوه، وإن تحررتُ من أسره! ابن عمك حسين، تعرض لحادث مروع، والعائلة في المستشفى! هكذا تكتمل تراجيديا الفقد على طرفي الأسرة، حبلٌ ممدود من آل العوامي إلى آل المصطفى، وأنا مثل السائر حافي القدمين على سيف لا يمكنك إلا أن تعضَ على قلبك وأنت ترى الدم يتقاطر على حوافه! ما إن جاء عليٌ، ونحن في السيارة متجهين إلى المشفى، وفي محلة الشويكة، جاء النداء أن حسينًا صار في الفردوس الأعلى.
أتذكر صوت “أبومحمد سلاط”، وآيات الذكرِ الحكيم تنساب خاشعة في المكان، وأنا أمام الجثمان كورقةٍ صفراء في مهب الريح، كغيمةٍ تهطلُ مطرًا لا يريد أن يتوقف، كزجاجة نارها موقدة من شدة لهبِ الفقدان، فيما ابن عمي سامي مذهولٌ أمام ملاكهِ الراحل!.
كل هذه الأوجاع، كانت أصيلة شفاء لها.. زرقتها، أزقتها، سكينتها، موسيقاها، رياحها الباردة، أرخت عليّ سكينة أعادت لي الروح، ومنحتني جناحين من نور، انتشلتني من خراب السواد القاتم.
هي ذي أصيلة، خاصرة المغرب الأكثر رقة، التي يراقصها العشاق ما إن تلتصق أكفهم بجيدها الفاتن والأخّاذ. أصيلةُ التي حكاياها لا تنتهي، ولنا فيها متكأ وشفاء يُروى.