ما بين كل الرؤساء الذين توالوا على الرئاسة في الولايات المتحدة منذ تأسيسها أواخر القرن الثامن عشر، وعددهم 45 رئيساً، لم يحمل أحد منهم كل هذا الكم الهائل من الطيش والغطرسة النرجسية كما يحمله الرئيس الحالي دونالد ترامب، ففي أقل من أسبوعين من توليه الحكم لم يتوان عن اتخاذ حزمة من القرارات المتلاحقة بالغة الخطورة كلها مثيرة للزوابع الإقليمية والدولية، ناهيك عن قراراته على الصعيد الداخلي، لعل أخطرها فيما يعنينا نحن العرب تطهير قطاع غزة من سكانه الأصليين وإصدار "أوامره" التهديدية لدولتين مستقلتين ذات سيادة - مصر والأردن - بأن تقبل تهجيرهم وتسكينهم الدائم فيهما، هكذا بكل بساطة وبكل استخفاف بقضية شعب من حقه أن يتمسك بالبقاء في وطنه ويطالب بحق تقرير مصيره وبناء دولته المستقلة.
وإذ تزين له أحلامه وهلوساته المريضة أن يقيم "ريفيرا" على جماجم عشرات الآلاف من ضحايا الإبادة الجماعية في قطاع غزة، والتي ارتكبها قادة الاحتلال، فهو لا يكتفي بذلك، بل يصدر أوامر بتأديب ومعاقبة منظمات تمثل سلطة الضمير والعدالة الإنسانية في المجتمع الدولي، كالمحكمة الجنائية الدولية، بتجميد أُصولها وحظر دخول قضاتها ومسؤوليها بلاده التي تحتضن مقر الأمم المتحدة ومنظمات دولية أخرى، لمجرد أنها أصدرت مذكرة اعتقال بحق رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت، باعتبارهما متورطين في حرب الإبادة، ما يعني ليس فقط مكافأة المجرمين بإتاحة إفلاتهم من العقاب، بل ومعاقبة من شرّع هذه الشريعة الدولية العادلة المستحقة بحقهم، وهذا يعني تسييد سلطة الغاب في العالم وفق ما يحلو لترامب ومزاجه فقط.
ومن ثم نسف كل ما بنته البشرية من أدوات ووسائل تنظيم العلاقات بين الشعوب والأمم والدول في عصرنا وهي خلاصة أو عصارة ما قطعته من رحلة طويلة نحو تطور الفكر الإنساني عبر آلاف السنين، لتنتقل من عصر الغاب والحروب إلى العصر الذي يُفترض أن يكون الآن أكثر أمناً وتسامحاً وتآخياً وتحضراً وتمدناً من العصور السالفة. وإذا كان ترامب بقراراته المتهورة قد أثار كل تلك الزوابع والأزمات الخطيرة التي تهدد سلام العالم وتزعزع استقراره، لا بل وتضيف المزيد من التعقيد على أزمات وبؤر توتر إقليمية ودولية قائمة، وقد فعل كل ذلك خلال أقل من شهر من توليه الرئاسة.. فماذا يا تُرى عساه سيفعل من قرارات متلاحقة قادمة ستكون بالتأكيد أكثر تهوراً على امتداد أربع سنوات من ولايته الحالية في ظل عجز المجتمع الدولي؟
بعد عام من تجربة عملها مع ترامب في البيت الأبيض أثناء ولايته الأولى أصدرت المساعدة السابقة أومارسا نيومان كتاباً مهماً بعنوان "المعتوه" وكان وقتها الأكثر مبيعاً.. وهنا السؤال الأكثر إلحاحاً، والذي ينبغي أن يطرحه الباحثون والمحللون على بساط البحث: كيف تمكن معتوه يحمل كل مواصفات العقلية الفاشية الاستعمارية والعنصرية في أجل صورها أن يصل إلى الحكم في أكبر دولة عظمى ما برحت تفتخر بأنها تمتلك تجربة ديمقراطية عريقة؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه في مقال السبت المقبل.
كاتب بحريني