العدد 5966
الخميس 13 فبراير 2025
حفلات " الست" وصخب جمهورها
الخميس 13 فبراير 2025

ثمة ظاهرة لافتة، أو لنقل خاصية في حياتنا الشعرية والغنائية، لعل العرب يختصون بها دون سائر الأمم، ففي الشعر، وتحديداً أثناء إلقاء القصائد في الحفلات والمنتديات الشعرية من قِبل شعرائها،  عُرف عن بعض جمهور الحاضرين -على اختلاف مستوياتهم الثقافية- أن يطلب واحد أو أكثر بإعادة إلقاء بيت شنّف إذنه إعجابا لقوة بلاغته. وعادة ما يستجيب الشاعر للطلب، وإن كان كان الطلب لمرة واحدة فقط . أما في الحياة الغنائية، وحيث أن نسبة كبيرة من الجمهور أقرب إلى العوام، فالظاهرة هنا تبدو أكثر صخباً في الهيام الجنوني لدى التفاعل مع  مقطع غنائي، حتى يصل الهيام بهم إلى درجة أن تطلب فئة منهم إعادة غنائه عدة مرات فيلبي المطرب أو المطربة طلبهم بكل سرور. 
ويمكن القول أن جمهور كوكب الشرق هو أكثر جمهور بين كل جماهير كبار الفنانين العرب -ذكوراً وإناثاً- ارتباطاً بتلك الظاهرة التي لا مثيل لها لو قورنت بجمهور نظيرتها المتربعة على عرش القمة الغنائية العربية الفنانة اللبنانية الكبيرة فيروز، حيث لا يطلب جمهورها الإعادة البتة حتى مع افتتانه أو إعجابه بكل مقطع مكتفياً بالتصفيق. في كتابه الشهير " أم كلثوم التي لا أحد يعرفها"يصف الكاتب الصحفي المصري محمود عوض، وهو من أوائل كتّاب سيرتها،أن الجمهور بالنسبة لأم كلثوم هو جزء  من غنائها، مضيفاً : " أن دوره رئيسي جداً..تماماً كدور الملحن والعازف.غناء أم كلثوم هو أحلى طرب يسمعه الجمهور.وتصفيق الجمهور هو أحلى أغنية تسمعها أم كلثوم. لو لم يوجد هذا الجمهور ما كانت ستوجد أم كلثوم. ولو لم توجد أم كلثوم ما كان سيوجد هذا الجمهور. في الواقع لا يمكن تصور أم كلثوم بغير هذا الجمهور، ولا هذا الجمهور بغير أم كلثوم .الشي وظله. الصوت وصداه.". 
على أن ظاهرة التفاعل الجنوني لجمهور أم كلثوم مع غنائها لفتت حتى بعض الكتّاب الغربيين، وعلى سبيل المثال تساءل المستشرق الإنجليزي دينيس جونسون ديفيز،أستاذ الأدب في جامعة القاهرة، وهو من المعجبين بجمال صوتها وقد حضر حفلتيها اللتين أحيتهما في الخرطوم عام 1968،بعد النكسة: 
" لماذا يأخذ الإعجاب بأم كلثوم هذه الصورة العنيفة المنفعة غير العادية؟ لماذا على وجه الخصوص يصيب الشبان كل هذا الاضطراب العصبي والنفسي عندما يستمعون إلى أم كلثوم".تُرى ماذا سيكون رد فعله لو سمع بالشاب الجزائري الذي قفز كالصاروخ على مسرح الأولمبياد في باريس مبتغياً تقبيل قدمها وهي تؤدي إغنية "الإطلال" حتى كادت أن تسقط على المسرح؟  وإذ ينوه بأن هذه الطريقة العنيفة في التعبير عن الإعجاب غير مألوفة عند الغربيين، فإنه ينتقد الظاهرة بطريقة لبقة: " لماذا هذا الإعجاب بهذه الطريقة المتوترة العصبية التي تبدو لي أحياناً غير فنية وغير سليمة، وفي رأيي أن فيها نوعاً من التعبير عن الكبت الجنسي الذي تعاني منه بعض المجتمعات العربية".( رجاء النقاش، لغز أم كلثوم، ص 53- ص 56). وإذ بدا الناقد الأدبي والفني المصري رجاء النقاش متردداً في إبداء نقده الصريح، نجد ناقداً فنياً كبيراً مثل كمال النجمي وهو من أهم مؤرخي أم كلثوم والمحتفين بفنها أكثر صراحة في نقد الظاهرة، وبخاصة فيما يتعلق بتكرار إعادة طلب غناء فقرات من أغانيها، حيث ناشد جمهورها بعدم استغلال سخاء الست في تلبية مطالبه وبأن يضبط عواطفه ويقتصد في طلب استعادة مقاطع أغانيها: " غير معقول -فيما أتصور- أن يواصل المستمعون هذا الجشع الفني والعاطفي فينتهبوا من أم كلثوم هذا وفي هذا الوقت في كل حفلة". ووصف النجمي هذه الظاهرة بأنها انفلات عصبي، وطالب بأن تبدأ حفلات أم كلثوم مبكراً وتنتهي مبكراً لا أن تنتهي في ساعة متأخرة من الليل. وبصراحة متناهية تنم عن عقلية فنية حضارية تحترم الفن الغنائي والموسيقي الجميل قال النجمي: " لقد آن لهؤلاء أن يلتزموا قواعد سلوكية لا يخالفونها، فليس معقولاً أن يواصلوا هذا الهرج والمرج في كل حفلة وفي كل أغنية، وكل مقطع من أغنية ويمنعوا أم كلثوم تنتقل  من نغمة إلى نغمة إلا بعد استعادات متوالية ملحاحة تشبه الابتزاز". ( كمال النجمي، الغناء العربي.. مطربون ومستمعون، دار الهلال، ص 51- ص 52). 

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .