إذا ما قمنا بفحص وتمحيص شهادة مصطفى أمين التي أدلى بها للتلفزيون المصري جيداً، وهو من أساطين مهنة الصحافة غداة ثورة يوليو 1952، يتبين لنا بأنها كانت شهادة متماسكة، بل كان يدلي بها بكل ثقة وسلاسة، مؤكداً صدور قرار منع بث أغاني أم كلثوم من دار الإذاعة.وتكتسب شهادته مصداقيتها أيضاً بالنظر إلى ما كانت تربطه بأم كلثوم من علاقة خاصة قوية تتوجت بزواجهما خلال العهد الملكي، وكانت من الداعمين لمؤسسة "دار أخبار اليوم" عند تأسيسها والتي كان يمتلكها ويديرها ويرأس تحريرها.لا يهمنا هنا بطبيعة استعراض هاتين قضيتي المنع والزواج تفصيلاً،( يمكن الرجوع لقضية المنع: في فيديو يوتيوب لماسبيرو بعنوان: مصطفى أمين يروي قصة منع إذاعة أم كلثوم وعزلها من منصب نقيب الموسيقيين. أما قصة زواجها من مصطفى أمين فيمكن الرجوع إلى : رجاء النقاش، لغز أم كلثوم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2009 ، ص 131- ص )، بل ما يهمنا هنا كيف كانت مسيرة أم كلثوم الفنية خلال الحقبة الناصرية وبخاصة أغانيها الوطنية منها. وإذ نجحت الست في تقديم مجموعة من روائع أغانيها -إداءً ولحناً وكلمات- في المجال العاطفي فإن أغانيها في المجال الوطني لا تقل روعةً وأهميةً، وذلك لارتباطها بفترة المد القومي الناصري العارم من المحيط إلى الخليج تحت قيادة عبد الناصر طوال النصف الثاني من الخمسينيات وعلى امتداد الستينيات بكاملها حتى وفاته 1970، فقد ساهمت بأغانيها في تعزيز ذلك المد بفضل ما كانت تتمتع به الست من جماهيرية كبيرة في مصر و العالم العربي، مثلما ساهم في ذلك -بدرجات متفاوتة- كبار المطربين المصريين أمثال محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ ومها صبري وفايدة كامل ونجاة الصغيرة وشادية واللبنانيات صباح ونجاح سلام وفايزة أحمد وغيرهم.
وكانت أول قصيدة وطنية غنتها إهداءً لثورة يوليو 1952 من نظم أحمد رامي " مصر اللي في خاطري ودمي "، من لحن السنباطي، وذلك في أكتوبر من نفس العام، كما غنت أنشودتين عن الجلاء، الأولى في 1954 " بأبي وروحي الناعمات الغيدا "من نظم أحمد شوقي وتلحين السنباطي، والثانية غنتها في 1956 " يا مصر إن الحق جاء " من نظم رامي وألحان الموجي. ثم توالت أغاني الخمسينيات بمناسبة أحداث هامة أو خطيرة مرت بها مصر:ذكرى استلام مصر إدارة القناة 1956، العدوان الثلاثي في نفس العام، الوحدة مع سوريا 1958، نشيد الجيش 1959، وضع حجر الأساس للسد العالي 1960.
وفي الستينيات غنت في بعض أعياد الثورة، ففي 1960 غنت " ثوار" من كلمات صلاح جاهين وألحان السنباطي، وفي 1962 غنت " الزعيم والثورة" من كلمات عبد الفتاح مصطفى ولحن السنباطي، وفي عام 1963 غنت "طوف وشوف" من كلمات عبد الفتاح مصطفى وألحان السنباطي، وفي 1965 بمناسبة تحويل مجرى النيل، ضمن مشروع السد العالي، غنت " حولنا مجرى النيل " من كلمات عبد الوهاب محمد وألحان السنباطي . وقبيل حرب النكسة 1967 بيوم واحد غنت "راجعين بقوة السلاح" من كلمات صلاح جاهين وألحان السنباطي. واشتدت حاجة القيادة الناصرية إليها بعد كارثة الهزيمة لرفع معنويات الشعب والجيش فغنت " إنا فدائيون" 1967 من كلمات عبد الفتاح مصطفى وألحان بليغ حمدى، وفي 1969 غنت "أصبح عندي الآن بندقية" من كلمات نزار قباني وألحان محمد عبد الوهاب،وأعقبتها بأنشودة " أجل إن ذا يوم لمن يفتدي مصر" من كلمات إبراهيم ناجي ولحن السنباطي.
ومما تقدم كان مجرد شذرات من أهم الأغاني الوطنية التي غنتها في الخمسينيات والستينيات، وقد استثنينا منها الأغاني التي تمجد الزعيم جمال عبدالناصر .وفي سني السبعينيات القليلة التي عاشتها أم كلثوم بعد غروب شمس المد القومي الناصري برحيل عبد الناصر 1970، لم تغني الست أي أغنية وطنية، اللهم أغنية خصصتها أصلاً لرثاء الزعيم ناصر " عندي خطاب إليك" من كلمات نزار قباني والحان السنباطي. والواقع أن أضواء كوكب الشرق نفسها أخذت تخفت بتراجع صوتها وتردي صحتها التي أخذت في التدهور حتى وفاتها في 3 فبراير 1975. ومع أن أم كلثوم كانت لها أغاني وطنية في العهد الملكي لا غبار عليها على نحو ما بيناه آنفاً، إلا أنه يمكن القول وبصرف النظر عما يؤخذ على العهد الناصري من سلبيات وأخطاء كبيرة أدت إلى الهزيمة ووأد التجربة الناصرية، أن أغانيها الوطنية في العهد الناصري هي الأكثر صدقاً وإلهاماً وإبداعاً في الكلمات والألحان والأداء، حيث كانت متفاعلة معها تفاعلاً صادقاً بلا رياء، خاصة وهي تلمس بنفسها مشاعر جماهيرها المصرية والعربية في التجاوب معها خلال مرحلة الزعامة الناصرية.