في قلب جنوب شرق آسيا، حيث تلتقي الممرات البحرية بزخم التجارة العالمية، أطلقت ماليزيا وسنغافورة مشروعًا طموحًا تحت اسم “المنطقة الاقتصادية الخاصة JS-SEZ”، يهدف إلى استقطاب 50 مشروعًا خلال السنوات الخمس الأولى من تأسيسه، ليصبح نموذجًا مميزًا ونادرًا للتكامل الاقتصادي الإقليمي.
وتمتد هذه المنطقة الاقتصادية الخاصة عبر ولاية جوهور الماليزية المتاخمة لسنغافورة، وهي ليست مجرد مشروع استثماري تقليدي، بل تُعد منصة استراتيجية تهدف إلى استقطاب الصناعات التحويلية، والتكنولوجيا، والطاقة النظيفة. ويُتوقع أن تسهم في توفير 100 ألف وظيفة جديدة وزيادة الناتج الاقتصادي الماليزي بمقدار 26 مليار دولار سنويًا بحلول العام 2030، مع التركيز على الابتكار والاستدامة.
تعهدت ماليزيا وسنغافورة بتطوير وتسهيل 100 مشروع خلال العقد الأول من إطلاق المنطقة، مع تقديم حوافز متنوعة تشمل تخفيضات خاصة على ضرائب الشركات والدخل؛ بهدف جذب استثمارات جديدة وتعزيز التعاون الاقتصادي بين البلدين.
وبالنسبة لدول الخليج العربي، التي تسعى لتنويع مصادر دخلها بعيدًا عن النفط، تبدو هذه المنطقة كجوهرة استثمارية وسط تنافس عالمي محموم، فهي ليست فقط بوابة للوصول إلى سوق يضم أكثر من 600 مليون نسمة في منطقة آسيان، بل تمثل أيضًا فرصة لتعزيز الحضور الخليجي في الأسواق الآسيوية الواعدة. فكما قال الفيلسوف الاقتصادي آدم سميث “الثروة الحقيقية تكمن في توسيع الأسواق”، فإن استثمار الخليج هنا يعكس رؤية اقتصادية متجددة تبحث عن أسواق تتسم بالديناميكية والابتكار.
وتمثل هذه المنطقة الاقتصادية الخاصة نموذجًا مشابهًا لمنطقة شينجن الصينية، التي استقطبت استثمارات دولية هائلة بفضل بنيتها التحتية المتقدمة وحوافزها الضريبية. والمستثمر الخليجي، بخبرته في إدارة المشاريع الكبرى، يجد في هذه المنطقة فرصة لتوطين استثماراته في مجالات التكنولوجيا والطاقة النظيفة، وتعزيز دخول منتجاته للأسواق الآسيوية. وتظهر الدراسات أن التجارة الثنائية بين ماليزيا وسنغافورة بلغت 78.59 مليار دولار أميركي في العام 2024، ما يعزز ثقة المستثمرين في الجدوى الاقتصادية للمشروع.
لطالما تمتعت دول الخليج بعلاقات قوية مع ماليزيا وسنغافورة، تقوم على أسس من المصالح المشتركة والاحترام المتبادل. ماليزيا، بثروتها الطبيعية وموقعها الاستراتيجي، تمثل شريكًا جذابًا لدول الخليج التي تسعى للاستثمار في الصناعات الحلال والسياحة الإسلامية. من جهة أخرى، تقدم سنغافورة نموذجًا للتخطيط الاقتصادي المتقدم الذي يمكن لدول الخليج الاستفادة منه في تطوير مشاريعها المحلية. كما أن التعاون الثلاثي يفتح آفاقًا جديدة لتعزيز الشراكات في مجالات الطاقة النظيفة والتكنولوجيا.
ورغم الطموحات الواعدة، تواجه المنطقة الاقتصادية تحديات تتعلق بالبنية التحتية والتنافس الإقليمي. النجاح يتطلب إدارة فعالة من ماليزيا وسنغافورة، مع ضمان عدالة اقتصادية واستدامة المكاسب، لتجنب أي اختلالات قد تُضعف جدوى المشروع وتؤثر على أهدافه المستقبلية.
إن نجاح المنطقة الاقتصادية لن يكون فقط انتصارًا لماليزيا أو سنغافورة، بل سيكون انتصارًا لنموذج التعاون الإقليمي الذي قد يلهم مشاريع مشابهة في دول الخليج العربي، فالمستقبل هنا ليس مجرد استثمار، بل هو رؤية تتجاوز الحدود لتعيد صياغة معنى الشراكة الاقتصادية في القرن الحادي والعشرين.