العدد 5656
الثلاثاء 09 أبريل 2024
banner
الصحافة العربية وعبقرية المهاتما
الثلاثاء 09 أبريل 2024


عندما يتحول الصحافي إلى مهاتما، والمثقف إلى إله صغير، حين تفقد الأرض كرويتها، ويأتي إلينا الكاهن من معبده، والإمام من قبلته، والصوفي من خلوته، ليعلمنا أدب الحديث مع الآخرين، فإذا به يخرج بنا عن المألوف، ويدخلنا نفقا مظلما نهايته مجهولة المصير، حين يأتينا الشيخ الجليل متكئا على منتهاه، ليلقي على مسامعنا أحسن القصص لا "آيات من الذكر الحكيم"، قولوا معي على الدنيا السلام. عندما يتبادل كل منا موقعه فيصبح الصحافي مرشدا، والنيابي ممثلا لنفسه، والصحابي ساعي بريد، قولوا معي أيضا على الدنيا السلام، وأي سلام.
هكذا أصبحت الصحافة مفتوحة للموظفين وليس للمحترفين، للباحثين عن عمل وليس للموهوبين والمهنيين والمثقفين الذين يبحثون عن الحقيقة وليس عن أي عمل. أصبحت الصحافة العربية نقلا لبيانات، صورة طبق الأصل لمحاضر اجتماعات، "كوبي بيست" من أوراق متناثرة على مناضد المسؤولين، حالة ميؤوس منها لمصانع رجال تحولت بقدرة قادر إلى مفارخ للطارئين والعشوائيين وعابري السبيل. إنها حالة مخاض طارئة لم تسبقها صافرة إنذار فيموت المولود ويضيع مستقبل الطبيب وتتحول الأم إلى عاقر. الكارثة أنه عندما تتحول بعض الصحف العتيقة من مراكز للتنوير والابتكار وتعلم أصول المهنة إلى معابد للكهنة وأوقاف للوعاظ ومنابر للقيل والقال، فإنه ليس غريبا أن نرى قديسا يلوح بعباءته للناس ليدعوهم إلى الصلاة، ويحدثهم عن الإيمان بالنفس الأمارة بالسوء قبل الإيمان بالله عز وجل، لن يكون غريبا أن يتحول الصحافي المخضرم إلى نزار قباني وهو يخطب في القوم متلبسا شخصية زعيم مضحك في قصيدته العصماء: "يا قوم لقد وليت اليوم حاكما عليكم"، لن يكون غريبا أن يصل النصح بهذا القديس أن تنبري قرائحه وتنتفخ أوداجه ليلقي باللائمة على الذين حلموا في المهد من حيواتهم بالمن والسلوى، وعندما أفاقوا من طفولتهم المعذبة لم يجدوا في دنياهم القصيرة لا المن ولا السلوى.
هكذا يمكن للصحافي أن يتحول إلى مشروع مهاتما وهو في مقتبل العمر، إلى ناصح نصوح وهو يودع صحافته ويسلمها تسليم أهالي إلى السوشال ميديا والفضاء الرقمي والذكاء الاصطناعي، وما خفي أعظم.
في جولاتي الرمضانية على قنواتنا التلفزيونية توقفت عند ذلك "الشيطان الذي يعظ" وأنا أشاهد فتحي عبدالوهاب بطل "المداح" وهو يسيطر بهيبته وهيئته على آلاف السذج، كيف يعدهم ويعظهم فيصدقونه ويتبعونه ويؤمنون إيمانا مطلقا به. 
توقفت أيضا في رحلتي الاستقصائية عن كريم عبدالعزيز في شخصيته الجديدة "حسن الصباح" بالتحديد في مسلسل الحشاشين الذي مازال الجدل التاريخي يلتف بحباله حول كاتبه ومخرجه، ثم كيف تمكنت شخصية مدرسة التاريخ "ريهام حجاج" في مسلسلها "صدفة" من السيطرة على "أولي الألباب" من تلاميذ ومجرمين ورجال أعمال ووزراء، في حالة استنساخية نادرة لتوارد الخواطر على طريقة "يا محاسن الصدف"، والصحافي الذي تحول في إحدى ليالي القدر إلى مصلح "مهاتمي" بدلا من لومبروزو وسقراط ونيتشه ومازال في "الجراب يا حاوي".

كاتب بحريني والمستشار الإعلامي للجامعة الأهلية

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية