+A
A-

"السكلر" القاتل الذي يواجه البحرينيين منذ 1200 عام

  • الرعاية الحكومية رفعت متوسط عمر المريض إلى 65 سنة

  • تشريعات وقوانين ضامنة لعمل المرضى ولحقهم في الحياة والتقاعد

  • دور الجدة البحرينية أثر في الحد من تفشي المرض وانتشاره

 

قاتل فتاك، يجيد قتل ضحاياه وهم يصرخون ويتألمون، هو وحش تواجهه البحرين منذ أكثر من 1200 سنة، ويترصد إلى نحو 8700 مصاب به، هو السكلر وما أدراك ما السكلر الذي يواجهه البحرينيين بالمورفين والمسكنات المخدرة منذ عشرات السنين.

وفي مشهد متكرر شبه يوميًا في غرفة الطوارئ بمجمع السلمانية الطبي وهو أكبر مستشفى في البحرين، تجد رجل أو أمراه تتأوه وتتلوى بألم فضيع، لا يطاق وبصراخ لا يتحمل لأنهم مصابين بما يتعارف عليه طبيًا في البحرين بنوبة سكلر.

والسؤال القائم: ما هو السكلر، ولماذا يجيد احتراف الألم والموت لمرضاه؟ ولماذا تتميز البحرين عن أقرانها بدول الخليج بوجود هذا المرض؟

 

بداية البدايات

مرض فقر الدم المنجلي هو -وفق تعريف العلم- اضطراب ينتمى الى مجموعة من الاضطرابات التي تعرف باسم مرض الخلايا المنجلية، تؤثر في شكل خلايا الدم الحمراء، التي تحمل الأكسجين الى كل أجزاء الجسم.

وعادة ما تكون خلايا الدم الحمراء مستديرة ومرنة، الأمر الذي يسهل حركتها في الأوعية الدموية، ولكن في حالة الإصابة بفقر الدم المنجلي، تتخذ خلايا الدم الحمراء شكل منجل، أو هلال، وتصبح صلبة، ولزجة، ما قد يبطئ تدفق الدم، ويمنعه.

ويرجع تاريخ المرض في البحرين الى اكثر من 1200 سنة، ولقد اشار ذلك الباحث محمد حسين الجمري في دراسة مفصلة بالتعاون مع متحف مسقط، والجامعة الفرنسية، بأن الآثار البشرية التي وجدوها تؤكد وجود المرض خلال الفترة السالفة الذكر.

في العصر الحديث، وفي العام 1957م تحديداً، واثناء انتشار حمى الملاريا في البحرين، اكتشف الأطباء بأن اصابة غير البحرينيين بفقر الدم المنجلي، لا يتخطون الخمسمائة شخص.

في حين كان عدد المصابين البحرينيين خمسة وعشرين شخصاً، وسط دهشة الباحثين من هذه النتائج، وتسائلوا عن الأسباب الكامنة خلفها.

 

الأولى خليجياً

وفي مقارنة للبحرين مع شقيقاتها بدول الخليج العربي، بعدد الإصابات، فأنها تحتل الرقم واحد بعدد 8700 مصاب تقريباً، وفقاً للأرقام المعتمدة من قبل وزارة الصحة البحرينية.

وما يتداول من أحاديث بشأن المرض، والمكتسبات التي تحققت، وتتحقق، سواء في المنصات الرقمية، والمجالس، واحاديث الناس، هو بسبب حضور المرض والمرضى في المشهد بشكل مباشر، وبأن هنالك جهود تكافلية، ما بين الدولة، والجهات الأهلية، على رأسها الجمعية البحرينية لرعاية مرضى فقر الدم المنجلي.

وبأن هنالك مرضى يطالبون بحقوق الرعاية، والاهتمام، وهو ما يقودنا الى نسبة وفيات المرض في البحرين، حيث كان متوسط عدد الوفيات بالسابق هو خمسين شخص في العام الواحد، لكن هذا الرقم انخفض كثيراً في فترة الكوفيد 19 الى 18 حالة فقط.

 

متوسط عمري

ووفقًا للإحصائيات الرسمية لوزارة الصحة وجمعية السكلر يبلغ متوسط عمر مريض فقر الدم المنجلي في البحرين 65 عاماً، قبالة 42 عاماً بدول الخليج،  ما يؤكد الرعاية الصحية الكاملة التي يحصل عليها المرضى عبر عدد واسع من التخصصات، تصل الى 13 تخصصاً، من أجل وضع الخطة العلاجية المناسبة خلال ساعتين فحسب.

ولو تفحصنا عدد المرضى الذين يزورون المستشفيات البحرينية لتلقي العلاج، سنجد أنهم لا يتخطون العشرة بالمئة فقط، في حين يركز التسعين بالمئة الآخرين على الخدمات غير الصحية، لتحسين جودة حياتهم، كالتعليم، والصحة، والمجتمع، والمؤسسات الدينية والاجتماعية.

 

مسح رباعي

افريقياً، فإن (75%) من أطفال مرض الفقر الدم المنجلي، يموتون قبل بلوغ سن الخامسة، بخلاف البحرين يبلغ بها المتوسط العمري للمريض 65 عاماً.

وينتهج البروتكول الطبي الوقائي البحريني، الى اجراء عملية المسح الطبي الشامل للمولود، أربعة مرات طوال سنوات عمره حتى الزواج، بآلية متقدمة تؤكد الرعاية والاهتمام.

أول هذا المسح هو عند الولادة، والثاني ثم قبل دخول المدرسة ، فقبل دخول الصف الأول الثانوي، وأخيراً قبل الزواج.

إن مقارنة التجربة البحرينية في علاج مرضى فقر الدم المنجلي، وتوفير الحماية لهم، يجب أن تنظر بوجه المقارنة نظيراتها في الدول الأوروبية، والاسكندنافية لتقدمها، ولتحضرها، ولأنها أهلاً للمقارعة، والمقارنة، ولأخذ التجربة.

 

مشروع جينوم

مشروع (جينوم) مستشفى السلمانية الطبي والخاص بالأمراض الوراثية هو مشروع حكومي طموح تم اطلاقه العام 2019م، بهدف جمع خمسين الف عينة من المواطنين لرسم خريطة البحرين الجينية.

وانشاء قاعدة بيانات شاملة، تساهم في رصد الأمراض الوراثية والوقاية منها، وقد تم الانتهاء من جمع عدد العينات المطلوبة، قبل المدة المحدد لها، في انجاز يؤكد عزيمة البحرينيين في هذا المضمار.

وأشار رئيس الجمعية البحرينية لرعاية مرضى السكلر زكريا الكاظم للـ"البلاد" بأن المشروع يهدف أيضاً للتعرف على طبيعة الأمراض المزمنة والشائعة في المجتمع المحلي، والتواصل المباشر مع شركات الأدوية العالمية، وطلب تصنيعها لأدوية تناسب طبيعة هذه الأمراض ومستجداتها، وعدم الاعتماد على الأدوية الجاهزة.

وفي تساؤل مطروح عن سبب عدم انتهاء المرض في البحرين، رغم وجود التشريعات الملزمة لفحص ما قبل الزواج، قال الكاظم" تقودنا الاحصائيات الى نسبة الإصابات بمرض فقر الدم المنجلي في العام 2006م، بعدد أربعة مواليد مصابين لكل مائة مولود، وفي العام 2010م بلغ العدد أربعة مواليد لكل ألف مولود، وفي العام 2014م كان الرقم قياسياً بالفعل كقصة نجاح وطنية، ستة مواليد لكل عشرة الالاف".

ويزيد" الأرقام هائلة، والمنجزات كبيرة، وكلها وفق احصائيات وزارة الصحة، وفي إشارة واضحة لتقدم مملكة البحرين في هذا المضمار، كما كان لوعي (الجدة البحرينية) دور في ذلك، مع رفضها لأي زواج اذا رفض احد المتقدمين اجراء الفحص، أو اذا كانت نتائجه غير متطابقة".

وتابع الكاظم" لكن حين جاء موجة الكوفيد 19، لم تستطع الجدة الخروج من منزلها، أو تلتقي بالآخرين، وهنا انكمش دورها بهذا الشأن، فأصبح التأثير على تزايد الإصابات بمرض فقر الدم المنجلي كبير، مع عزل الجدة".

ويواصل" بلغ عدد المسجلين في وزارة التربية والتعليم لعدد المصابين بالمرض قبل خمس سنوات، وذلك وفقاً للإحصائيات الرسمية 360 طالب وطالبة، في حين يتجاوز عدد الطلبة المصابين حالياً فوق 1200 طالب وطالبة".

ويتابع الكاظم" هذه القفزة تحمل دلالة غياب دور الجدة، وبدأت الزيجات تسمح، للزواج الغير متطابق، بقلة وعي، وناقوس خطر، وهو ما سيجعل الخطة الموضوع للقضاء على المرض والتي ستصل الى ثمانين عاماً، لأن تتخطى هذا الرقم بمراحل".

 

الآلام متفاوتة

وتتفاوت الآلام مريض فقر الدم المنجلي من البسيطة، الى المتوسطة، الى المبرحة والتي لا يستطيع المريض التي يتحملها، حيث تصل مستوى نوباتها الى ما يساوي عشرة مرات من الآلام الولادة، وتستدعي الدخول للمستشفى والحصول على مواد أفيونيه للتخلص من هذه الآلام.

والنوع الرابع منها، هو الألم المزمن والذي لا يغادر الجسد، بسبب تآكل العظام، والمفاصل، أو خسارة عضو رئيس داخل الجسم، والذي يتسبب بالنهاية الى هذه الآلام.

 

مبادرات ومواقف

في برامج عمل حكومة البحرين من العام 2014م الى العام 2018م ركزت في اهتمامها على مرض فقر الدم المنجلي، وعلى احتياجاتهم، في العلاج، والتوظيف، والتعليم.

منها اصدار وزارة العمل لقرار بأن عدد الساعات التي يعملها مريض فقر الدم المنجلي قياساً بالأصحاء هي أقل بساعة، أو ساعتين، وبأن الاجازات المرضية له هي 114 يوم، كما أن الحد الأدنى للحصول على الراتب التقاعدي له هو 40% من راتبه الأساسي، بغض النظر عن عدد سنوات الخدمة.

وعلى مدى عقود عدة، لم تتأخر البحرين في اعتماد سلسلة طويلة، من الأدوية العلاجية المتقدمة، والتي تساعد على تخفيف الآلام، والحد منها، وعلاج المرضى، منها أدوية (انداري)، و (كريزانليزوماب)، و(كاسفيفي ايسكا سيل)، وغيرها.

ويأتي اعتماد مملكة البحرين أخيراً لعلاج (كرسيبك) والذي أحدث ثورة علاجية كبيرة للمرض، عبر تصحيح جيني للبصمة الوراثية للمريض، وشفاءه، كقفزة كبيرة في الرعاية الصحية التي تقدم للمرضى، بالرغم من وصول سعر الدواء لقرابة المليونين دينار.

 

قصص حياة

البحرين تقدم قصص نجاح، وليس موت في صراعها الأزلي مع مرض فقر الدم المنجلي، منها وصول عدد المصابين بالمرض الى مناصب قيادية مهمة في الدولة، كوكيل وزارة العمل خالد صنقور، والمساعد الأمين العام لمجلس الشورى علي العرادي، واستشاري الأمراض الصدرية د. ناصر الناصر.

وهنالك أيضاً الروائي والكاتب الكبير فريد رمضان رحمه الله، والدكتورة مناهل منصور والتي تم اختيارها في العام 2018م من ضمن اكثر مئة امرأة عربية مؤثرة، في قائمة البي بي سي.

إذا للبحرين نماذج مشرفة تقول، بأن البحرينيين قادرون على مواجهة هذا المرض، وفي التغلب عليه، وبأنه ليس عذر للتقاعس، وعدم القيام بالمسئوليات، ولا تزال اليوم، وكل يوم، المعركة مستمرة.