علمنا نجيب محفوظ أن الكتابة تعالج كل شيء، حتى لو كانت طعنة في الرقبة بسكين.. قال محفوظ في حوار له: "المشي في شوارع القاهرة غير مريح"، قالها محفوظ ولم يتوقف عن المشي أو عن القاهرة، وكنت أعتقد أن إدمانه المشي هو الذي جعله لا يتعثر أبدا طول الطريق، إلى أن لمحت في كتاب العادات الذرية مقولة "التهديد الأكبر للنجاح ليس الفشل، لكن الملل"، وظهرت صورة محفوظ أمامي في الحال، فلم يمل أو يتوقف وحول الكتابة من مهنة إلى عادة، احترف نظام العمل لكنه ترك الموهبة تنعم بروح الهواية، وكان تقريبا الشخصية العامة الوحيدة التي نعرف لها برنامجا يوميا منتظما ومضبوطا بالثانية.

يقول تشيكوف ناصحا الكُتاب: لا تقل لي إن القمر مضيء، لكن أرني أثره فوق زجاج مهشم، وكل ما مر بمصر من زعماء وشخصيات وأحداث ستجده بين سطور أعمال محفوظ، لكنه في الوقت نفسه حمى ما كتبه بأن ابتعد عن السياسة الصريحة بمبدأ "ابعد عن الشر وغني له"، وهي جملة نرددها منقوصة، فهي "ابعد عن الشر وغنى له ولا "تقني" له"، أي اصنع قناة بينك وبينه وهذا شرط الغناء.

كانت أزمة أولاد حارتنا لها علاقة بالدين، وما أفصح عنه محفوظ فيما بعد أنه شعر بالقلق لأن المحتوى كان سياسيا بالدرجة الأولى، لكنه حمد الله أنهم جنحوا به إلى قراءة أخرى ظلت تطارده ثلاثين عاما حتى استقر خنجر في رقبته، كان التحقيق مع نجيب محفوظ غير مباشر حسب روايته للأستاذ رجاء النقاش، فقد طلب منه فريد شوقي كتابة سيناريو لفيلم يدور في أجواء المخابرات، وكان لابد من زيارة مكتبهم لمناقشة الفكرة وطلب مساهمتهم في الإنتاج، وفي مكتب ضابط المخابرات المسؤول كان هناك شخص يجلس بعيدا لا يشارك في الحديث، حتى انتهى الكلام عن الفيلم وفتحت سيرة الروايات، فقال له الشخص الغامض إنه قرأ بين القصرين وأولاد حارتنا، ثم بدأ يسأله عما يقصده في هذه الرواية والمشكلات التي ثارت حولها وحقيقة أنها تحتوى على تجاوزات دينية، ثم انتهى الحوار بانصرافه ووعد الضابط بدراسة الفكرة والمساهمة في التمويل.

ويحكي محفوظ أنه بعد هذه الواقعة بشهور شاهد في الصفحة الأولى للأهرام صور جولات عبدالناصر في إحدى الدول الأفريقية، وعندما دقق وجد بالقرب منه الرجل الغامض الذي كان يناقشه في مكتب المخابرات، وكانت دهشة محفوظ كبيرة عندما عرف أنه رئيس المخابرات صلاح نصر، ففهم أن الأمر كله كان مدبرا.

كاتب مصري