+A
A-

بريخت والحمدان..متعة عقلية تطير بنا إلى آفاق الابتكار الفني

وقعت بين يدي وأنا أعيد ترتيب وفهرسة مكتبتي المنزلية مسرحية" حياة جاليليو " لبريخت، من مطبوعات المسرح العالمي، وكما هو معروف ان فن بريخت المسرحي يقوم على كسر القاعدة الأساسية للمسرح التقليدي أو ما يسمى بالحائط الرابع، أي التعاطف بين المشاهدين والممثلين وكان هذا الحائك الرابع الوهمي شرطا من شروط الإيهام المسرحي.

كتب بريخت هذه المسرحية التي تعتبر من روائع المسرحيات الملحمية الخالدة في تاريخ النهضة المسرحية الحديثة التي تضمنت كل المقومات الفنية التي تمتاز بها أي مسرحية ناجحة كتبت لها الخلود الفني، إذ جمعت بين التاريخ والفن المسرحي، كما نجح بريخت في إفصاح شتى الانفعالات والأحاسيس الإنسانية التي عبرت عنها شخصية جاليليو المسرحية، فمن أنانية وحب وكراهية وصراع من اجل الحياة وكفاح من اجل الوصول لغرض هين وطمع من اجل المال وأمل ويأس وذكاء ومكر إلى خوف وشجاعة.

وتظهر عبقرية بريخت منذ السطر الأول في المسرحية حتى نهايتها وفي طريقة كتابتها طبقا لمنهجه وطريقته التي اختطها لمسرحه الملحمي ، فمن بناء درامي متكامل وبروز العنصر التراجيدي وتحليل لأعمق النفس البشرية وتصويره ببراعة لحظة انكسارها ووضوح عنصر الصراع النفسي المرير لحظة من اللحظات التي كان من الممكن فيها ان يبدأ عصر العقل إلى دقة وصفه للمجتمع اللاتيني المتجمد الذي رانت عليه صور الجمود الفكري والذي سيطر عليه قوم يقتلون الحقيقة، تحكمهم عقول رجعية ذات تفكير ديني رجعي محدود، إلى نقده الهادف للقانون الوضعي الصارم الذي تمثله محاكم التفتيش الإرهابية.

مسرحية " حياة جاليليو" ذكرتني بمسرحية " الجاثوم" الشهيرة للناقد البحريني يوسف الحمدان التي كانت جديرة بالتأمل والدراسة لسنوات طويلة، نظرا لقوتها في تجربة التعبير الجديدة والصراع التراجيدي وقوة البناء ودقة التركيب، فالحمدان قدم لنا في " الجاثوم" رسالة اجتماعية وأخلاقية  وصدامات عنيفة وقسوة وسوداوية وسيطرة واستعباد وسخطا على بعض التقاليد والأخلاقيات ومشاعر متلاطمة متضاربة بين ضحكة ودمعة عين.

فكلاهما – بريخت والحمدان- يضعان القارئ أمام عدسة مكبرة ليرى صورا متتابعة من المآسي والمعاناة والأحداث الرهيبة التي تسيطر على الإنسان بكل لون وحركة وإيقاع، ويبهران المتلقي أيضا في اللغز العميق الذي تطرحه المسرحية، فهل يختار الإنسان قدره ويغزل بنفسه خيوط هذا القدر، أم ان الذي يحدث هو قدره بالفعل الذي لا دخل له فيه؟.

من يقرأ " حياة جاليليو" و " الجاثوم"، سيعرف النشوة التي نجربها عندما نكتشف معرفة جديدة، فهي باختصار متعة عقلية ومادة تطير بنا إلى آفاق الابتكار الفني التي ليس لها حدود. إنهما - أي بريخت والحمدان - يقولان لنا ..ما أجمل شروق الشمس في فصل الشتاء".