العدد 5114
السبت 15 أكتوبر 2022
banner
إيران "المرأة والحياة والحرية"
السبت 15 أكتوبر 2022

طوال ثلاثة أسابيع ونيف استمرت الاحتجاجات الشبابية على مقتل الشابة الكردية مهسا أميني (22 عاماً) على أيدي "شرطة الأخلاق" منتصف سبتمبر الفائت؛ بحجة أن حجابها ليس وفق "الضوابط الشرعية"، وهي الاحتجاجات التي انتقلت بعدئذ من الشوارع إلى داخل حرم الجامعات الكبرى والمدارس الثانوية في مختلف المحافظات، وقد بدا واضحاً أن نظام الملالي بوغت بحجم وطول مدة تلك الاحتجاجات التي تتصدرها النساء الشابات. والحق فإن تفجر تلك الاحتجاجات، والتي جاءت تحت شعار "المرأة والحياة والحرية" وتلقت دعماً من خيرة كبار المثقفين والفنانين والرياضيين، لم تكن احتجاجاً فقط على مقتل أميني، بل جاءت نتاج تراكم طويل من الكبت وقمع الحريات الشخصية والعامة، آن له أن ينفجر لتنفيس مخزون الغضب المكبوت، ضمن موجة جديدة سبقتها موجات من الانتفاضات، وستعقبها موجات قادمة وصولاً لثورة الانفجار الكبير.
فهل خلا الشعب الإيراني من كل أزماته، من معيشية وسكنية وتدني أجور وفقر، ولم يعد يشغل حكومته سوى أن تضبط له أحجبة فتياته؟ ناهيك عن أن الكل يعلم في إيران، بأن مثل تلك الحملات التفتيشية، التي تقوم بها "شرطة الأخلاق"، ما هي إلا حملات عشوائية موسمية تكيل بمكيالين، إذ لطالما استثنيت منها فتيات وسيدات يعملن في القطاعات الإعلامية والسياحية ويظهرن على الشاشات ووسائل الإعلام العالمية بأحجبة غير متسقة و"الضوابط الشرعية" بعلم النظام ورضاه؛ ما دمن يروجن للسياحة أو يدلين بأحاديث سياسية مدافعة عن النظام. خذ على سبيل المثال لا الحصر، يوتيوب بعنوان "أسبوع الثقافة في أصفهان"، حيث يظهر فيه حشد كبير بالآلاف من الفتيات والشباب في احتفال جماهيري تصدح فيه الموسيقى في الهواء الطلق، جزء منهن سافرات والجزء الأعظم يرتدين الحجاب دون "الضوابط الشرعية"، وتفرج على يوتيوب آخر لفتيات مشهد المقدسة بعنوان "رأي الإيرانيات في وجود العراقيين"!
وثمة مفاجأة أخرى لم يتوقعها نظام الملالي المتشدق بالمساواة الإسلامية، تتمثل في أن المغدورة إيرانية كردية، ومن ثم لم يتوقع أن يتوحد الشعب بمختلف قومياته حول مظلوميتها، فالمؤكد أن "النزعة الشوفينية" ضاعفت حجم العنف الوحشي الذكوري الذي تلقاه جسد الفتاة الكردية الرقيق على أيدي سافاك نظام الملالي "شرطة الأخلاق". 
ولم تقتصر المظلومية على الشهيدة الكردية "مهسا أميني" إذ سقطت عشرات الشهيدات من القومية الفارسية، هذا بخلاف من سقطوا من عشرات الشباب برصاص الأمن الحي الموثق بالفيديوهات، رغم سلمية تلك الاحتجاجات، وعلى سبيل المثال - لا الحصر - سقطت كل من: نيكا شكرمي ذات الـ 16 عاماً والتي كانت تعيش في كنف خالتها الفنانة آتاس في طهران، وحدس ابنة كرج (22 عاما)، والكردية مينو مجيدي ابنة كرمنشاه. وحتى ساعة كتابة هذا المقال فإن عدد ضحايا الرصاص الحي خارج القانون في الشوارع والساحات والجامعات يناهز 100 قتيل، عدد كبير منهم من الفتيات والقصر!
وما لا يفكر في تبعاته النظام جراء هذه المذبحة الدموية غير المسبوقة بحق انتفاضة النساء السلمية، أنها ستفضي إلى تفاقم النقمة ضده في أوساط شرائح واسعة من المجتمع الإيراني، ولن تقتصر على عوائل الشهيدات والشهداء. لكن دعونا نتساءل: ما هي "الأخلاق" بمفهوم النظام؟ هل هي محصورة فقط في ارتداء الفتيات وفق ما يسميه "الضوابط الشرعية"؟ ألا يُفترض أن الأخلاق بمثابة منظومة شاملة من القيم تفرض مراقبة شتى المظاهر الانحرافية من مخدرات ودعارة وغش وسرقات وغيرها من مظاهر متعددة ما برح المجتمع الإيراني يعاني منها منذ أمد طويل؟ وهذا يُوجب معالجة جذور الاختلالات داخل النظام والمجتمع معاً، ثم هل يستطيع النظام أن يثبت بأن رجال شرطته "الأخلاقية" يتحلون حقاً بمكارم الأخلاق بلا جدال قبل أن يسوقوا الفتيات إلى مراكز "الإرشاد" المزعومة التي تُهدر فيها كرامتهن، وأقلها تعرضهن للعنف الجسدي؟
ومن المحزن أن هذه الانتفاضة الجماهيرية، والتي تُعد من أكبر الانتفاضات النسائية في تاريخ إيران الحديث، إذ تلقت دعماً رمزياً من نساء أفغانستان في وقفة لهن جسورة أمام السفارة الإيرانية بكابول، رغم معاناتهن المريرة من قمع نظام طالبان، وكذلك فقد كانت ثمة وقفة أخرى مناصرة من ناشطات نسويات تونسيات، فإن القوى السياسية المدافعة عن حقوق المرأة، ومنظمات المجتمع المدني في معظم بلداننا العربية، وعلى وجه الخصوص المنظمات النسوية في لبنان والعراق والخليج العربي الذي تشاركنا إيران كامل ساحله الشرقي، كل تلك القوى والمنظمات بدت غائبة عن دعم الانتفاضة النسائية الإيرانية، ما خلا أصوات نسائية محدودة من هنا وهناك، فكأنما إيران موجودة على كوكب ثان، وليست على مرمى حجر من سواحلنا الخليجية، وللأسف فإن هذا الصمت إنما يأتي في الغالب لحسابات سياسية قصيرة النظر تتمثل في مجاملة حركات وأحزاب "الإسلام السياسي الشيعي"!.

 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .