اُشتهر عن شيفردنازه وزير الخارجية السوفييتي في عهد جورباتشوف آخر زعيم سوفييتي، أنه أول من وصف الحرب العراقية - الإيرانية (1980 - 1988) بـ "الحرب المجنونة"، نظرا لعبثيتها، ولئن صح هذا النعت، فما أشد انطباقه على الحرب الروسية الأوكرانية التي يخيم عليها شبح تحولها إلى حرب نووية بين روسيا من جهة، وحلف الناتو الحليف العسكري لأوكرانيا من جهة أخرى، بل وفي ظل هذا الشبح المرعب، بلغ السباق الجنوني إلى أن يتقاتل الطرفان بالقصف المتبادل حول محطة زيوروجيا النووية التي طالتها أضرار جسيمة، في ظل مخاوف بتعرض بلديهما وبلدان أوروبية إلى مخاطر تسرب إشعاعات نووية قاتلة، وكأنما كارثة محطة تشرنوبيل النووية عام 1986 التي وقعت داخل أوكرانيا السوفييتية، وأودت بحياة الآلاف من الضحايا (حسب التقديرات المحايدة) غير كافية للاستفادة من عِبرها في الحرب بينهما، حيث ما فتئت المحطة تتعرض للقصف منذ مارس الماضي.
وفي ضوء تلك المخاطر المتعاظمة ومخاوف جدية بتعرضها للانفجار أو تسرب موادها الهيدروجينية زار وفد المحطة يضم خبراء من وكالة الطاقة النووية الدولية لتفقدها، وأصدر مؤخراً تقريرا بحصيلة زيارته، ومن أبرز ما جاء فيه:
أولا: نحو ألف عامل وموظف يعملون تحت ظروف عصبية ونفسية قاسية؛ جراء القصف وفوبيا تعرض المحطة للانفجار في أي وقت، وهم مقطوعون عن عائلاتهم منذ سيطرة القوات الروسية على المحطة، ولا يستطيع المختصون منهم الوصول إلى أحواض التبريد إلا بترخيص مسبق من القوات الروسية. ثانيا: من بين المفاعلات الستة للمحطة اُضطر لإيقاف أربعة، ثم اُكتفي باثنين، وأخيرا بواحد فقط. ثالثا: في ضوء تبادل الطرفين مسؤولية قصف المحطة، أوصى التقرير بإقامة منطقة عازلة من السلاح لضمان السلامة والأمن النووي وتفادي المزيد من الأضرار المتوقعة. رابعا: اتهم التقرير روسيا بوجود شاحنات عسكرية لها داخل قاعات التوربينات، وهو ما نفته موسكو.
ومع أن الطرفين يتحملان مسؤولية القصف المتبادل الذي طال المحطة، إلا أن روسيا باعتبارها الطرف المحتل تقع على مسؤوليتها ضمان سلامة المحطة، إلا أن روفائيل جروسي، رئيس الوكالة الدولية الذرية، أكد أهمية تحديد الطرف المسؤول عن القصف. علماً أن كييف اعترفت مرة بقصف قاعدة روسية في بلدة "أزرو جودار" القريبة من المحطة.
كما اعترفت مرة أخرى على استحياء من خلال "السوشال ميديا" الموالية لها بأنها قصفت قوات روسية بالقرب من المحطة!
ولا يبدو للمتابع لجذور النزاع بين الدولتين، الذي تحوّل منذ اندلاع الحرب أواخر فبراير الماضي إلى حرب ضروس ضارية تُستخدم فيها أفتك الأسلحة المتطورة غير النووية، أن أياً منهما في وارد تقديم تنازلات، سواء من خلال المواقف الإعلامية الرسمية، أو في بضع جلسات المفاوضات المحدودة التي عُقدت حتى الآن، ولاسيما في ظل عجز الأمم المتحدة عن القيام بدورها للمحافظة على السلم والأمن الدوليين زمن أي حرب، فضلا عن غياب دور قوي ملموس فاعل من قِبل أطراف محايدة ذات وزن على الساحة الدولية، ومن ذلك أيضاً تراجع دور منظمات السلم العالمية التي عُرفت بنشاطها الشعبي والمدني الفاعل في سني الحرب الباردة. وإذا كان غيث إطفاء نيران الحرب المعقدة المتأججة يبدأ بقطرة، فلعنا على ضوء تلك المعطيات، نرى من الأهمية بمكان - وبصورة عاجلة - أن يغلّب الطرفان ولو قليلاً لغة العقل، ليتعاملا بواقعية مع تقرير وكالة الطاقة الذرية الأخير، من خلال التفاوض على النقاط غير المقبولة لدى كل منهما، وصولاً لنقاط مشتركة من الحلول الوسط بشأنها بما يجنب مخاطر انفجار المحطة النووية أو تسرب مواد نووية مشعة تلحق أشد الضرر بالجانبين، ناهيك عن البلدان الأوروبية المجاورة لهما.
ومن المفارقات الساخرة في معركة صراعهما على محطة زابوريجيا الأوكرانية أنها تكاد تشكل "أيقونة رمزية" لم تندثر على عمق العلاقة التي كانت تجمعهما مواطنة واحدة مشتركة تحت مظلة الاتحاد السوفييتي السابق، مع ما تربطهما من وشائج تاريخية وثقافية وتاريخية، ناهيك عن أواصر المصاهرات، ذلك أن المحطة التي هي من أكبر المحطات النووية في العالم والأكبر في أوروبا، إنما صممها مهندسون روس وأوكرانيون عام 1980 زمن الاتحاد السوفييتي السابق، وشارك في تشييدها عمال ومهندسون وفنيون من الطرفين، وبقيت صامدة تخدم الشعب الأوكراني بعد تفكك الاتحاد السوفييتي 1991، وتم توصيل مفاعلها السادس بالشبكة عام 1995، ليعملا سوياً الآن على تدمير واحدة من أكبر ثمرات إنتاجهما المشترك التي لم يصبها الأذى جراء التفكك، وذلك منذ أن كانا ينضويان تحت سقف دولة واحدة كبرى. فما هو الجنون إذا؟ إن لم يكن ذلك هو الجنون بعينه!.