العدد 5075
الثلاثاء 06 سبتمبر 2022
banner
كيف ستكون لغتنا في عام 2050؟
الثلاثاء 06 سبتمبر 2022

بكل المقاييس لم تبلغ لغتنا العربية هذه الحال المأساوية غير المسبوقة تاريخياً كما بلغته اليوم، ولعلها حالة ليس لها مثيلا في أي لغة من لغات العالم العشر الأكثر انتشارا ، علماً بأن هذه الفجوة في هذه اللغات العالمية بين لهجات الناطقين بها والفصحى ولهجات الناطقين بها، لاتبدو كالفجوة الهائلة بين الفصحى والعامية في بلداننا العربية، وهي فجوة آخذة في الاتساع  عاما بعد عام. على أنها  تتماهى مع متغيرين: 
المتغير الأول: يتمثل في انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي تكثر فيها يومياً الأخطاء اللغوية،فأضحت تلك الوسائل أشبه بترمومتر حقيقي لقياس حال الاُمة لغوياً في سلامة اللغة، ليس في أوساط العامة من الملمين باللغة -كتابة وقراءةً- فحسب، بل حتى في أوساط المتعلمين، وبضمنهم خريجو التعليم العالي، ناهيك عن المثقفين.والطامة الكبرى إننا بتنا اليوم نشاهد ثمة نسبة غير قليلة من جيل الأدباء الشباب والمخضرمين لا تخلو كتاباتهم من الأخطاء اللغوية أيضاً،وهذه ظاهرة مستجدة لعلها بدأت في التفاقم طردياً منذ نحو ربع قرن، ومثلها تفشي الأخطاء عند نسبة كبيرة من الإعلاميين في المؤسسات الإعلامية على امتداد عالمنا العربي، لا سيما في الإذاعة والتلفزيون، ناهيك عن الصحافة، دع عنك الإعلانات وأسماء المحلات التجارية. ومن مظاهر هذا التفشي الخطير اللوذ إلى " العامية" لتفادي الوقوع في الأخطاء العربية، حتى في البرامج التي لا يجوز فيها بأي حال من الأحوال التحدث بالعامية، كالبرامج العلمية والثقافية، بل لا يتوانى اليوم عدد من الفضائيات عن استخدامها حتى في نشرات الأخبار والبرامج السياسية.وهذه الظاهرة أيضاً ذائعة الصيت -بوجه خاص- في قنوات اليوتيوب التي تُقدم فيها مواداً علمية وسياسية وتاريخية وتراثية وخلافها. وكم حرص كاتب هذه السطور على تنبيه مُعدي مثل هذه البرامج في قنوات "اليوتيوب"بضرورة التحدث بالفصحى، لكن بعضهم إذ يوعدك خيراً، فإن وعد الليل يمحوه النهار، وأكبر الظن أن وعودهم ماهي إلا من قبيل المجاملة. والراجح أن تمسكهم بالعامية يفسره تخوفهم من الوقوع في اللحن عند التحدث بالفصحى،مع أن مثل تلك البرامج لكونها علمية؛ يُفترض أنها تهم الشعوب العربية كافة، لاقطراً عربياً واحداً بعينه.كما أن هذه الظاهرة المؤسفة انتقلت إلى محطة "بي بي سي" العربية اللندنية المستقلة والمعروفة تاريخيا بالريادة في فصاحة مذيعيها،أما اليوم فإن العامية شائعة على ألسنة الأكثرية من أولئك المذيعين المنتمين لأحد الأقطار العربية الكبرى، وخصوصاً عند حواراتهم مع مستمعيهم من القطر العربي نفسه الذي ينتمون إليه! 
المتغير الثاني : يتمثل في تراجع النظام التعليمي العربي بصورة حثيثة ومتسارعة من سيء إلى أسوأ، حتى ليكاد يصل إلى حافة الانهيار؛ لعوامل ذاتية وموضوعية ليس هنا موضع تناولها، وهذا ما انعكس سلباً على مخرجات التعليم ومستويات الطلبة المتخرجين في اللغة العربية.والمدهش في الأمر أن هذا يحدث في وقت يشهد فيه عالمنا الحاضر ثورةً علمية في التكنولوجيا ووسائل الأتصال، في حين كان مستوى النظام التعليمي اللغوي العربي إلى ما قبل ثلاثة عقود تقريبا،لم يكن يعرف مظاهر تلك الثورة العلمية والتكنولوجية في عصرنا، ومع ذلك كانت لغتنا أفضل حالاً عما هي عليه اليوم! 
وقد دُبجت واُلفت عن إصلاح نظامنا التعليمي اللغوي مئات الدراسات -كتباً ومجلات دورية ومقالات صحفية- ولا من مستجيب، ناهيك عما أنفقته دولنا العربية من أموال طائلة في هذا الشأن، من مؤتمرات وندوات واستقدام مستشارين إلخ، وفي تصورنا أن مكمن العلة إنما يعود في المقام الأول إلى غياب الإرادة السياسية العربية الجادة لإصلاح النظام التعليمي للعربية ومناهجه إصلاحاً جذرياً، لاترقيعياً أوشكلياً.
على أن السبب الرئيس لتفاقم حال لغتنا العربية تفاقماً مريعا إنما يعود إلى اللامبالاة بأهمية إصلاح نحو وقواعدالعربية،ومن ثم بقاء نظامها اللغوي المزمن الخالد على ما هو عليه منذ نحو ألف ومئتي عام،حتى بات اليوم متحجراً أكثر من أي وقت مضى، إذ لا يكاد يستجيب إلى متطلبات العصر، ما يدفع الناشئة إلى النفور منه؛ جراء جفافه وتعقيده، على عكس ما لحق ويلحق بلغات عالمنا المعاصر من إصلاحات جذرية متواصلة متواكبة مع العصر، في حين أن مجامعنا اللغوية، وبالرغم من تدني جهودها الإصلاحية، إلا أنها بالإضافة لما يسود في أتخاذ قراراتها النهائية من خلافات بين فريقين من كبار أساتذة اللغة، أقلية إصلاحية مجددة وأكثرية محافظة، فإنه حتى في المرات النادرة التي يتوافق فيها الطرفان على مبادرات إصلاحية نسبية جزئية لاتحظى بعدئذ بالاهتمام الكافي والمتابعة من قِبل الجهات الرسمية المعنية داخل كل قطر عربي لتنفيذها، فتصبح حبراً على ورق، ولا يعلم سوى الله إذا ما ترك الحابل على الغارب من هذه الحال المزرية من التفاقم المطرد والمتسارع كيف ستكون لغتنا في منتصف القرن؟

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .