بثت قناة DW الألمانية بمناسبة رحيل ميخائيل جورباتشوف آخر زعيم للاتحاد السوفييتي عن عالمنا الثلاثاء الماضي، فيلماً وثائقياً تميز بقدر معقول من الشفافية، متضمناً شهادات مهمة لشخصيات أغلبها غربية، وسوفييتية، وذلك عن أواخر حقبة الحرب الباردة وما تخللها من سباق تسلح نووي مرعب بين القوتين العظميين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وانتهت بانهيار الأخير 1991، وسنكتفي تالياً بعرض ثلاث شهادات غربية، وواحدة يابانية.
الأولى: تتمثل في شهادة أوبير فيدرين، وزير الخارجية الفرنسي في الفترة 1997 - 2002، والذي سلّط الضوء على دلالات موقف الرئيس الفرنسي الأسبق الجنرال ديجول من حليفته الولايات المتحدة عام 1966، حيث وقف منها موقف الند بعدما أرادت استخدام الردع النووي المحدود مع الاتحاد السوفييتي وحلفه "وارسو"، لكنه رفض هذه الاستراتيجية من منطلق أن العواقب ستكون وخيمة عالمياً إذا لجأ الطرفان إلى التصعيد النووي المتبادل. وفي مرحلة تصعيدية من الثمانينات نُصبت صواريخ بيرشينج النووية متوسطة المدى في ألمانيا وأوروبا وانتهت بالفشل الذريع؛ حيث ووجهت برفض شعبي ألماني وعالمي.
الثانية: تتمثل في شهادة هورست تيلتشيك، مستشار الزعيم الألماني الأسبق هيلموت كول، وقد اعترف بتفويت الغرب فرصا ضائعة زمن الحرب الباردة، ملقياً اللوم على السياسة الأميركية حينذاك، ومن ذلك فرصة التوصل إلى بيت أوروبي مشترك يوفر الأمن للجميع، ومن ضمنهم السوفييت ثم الروس لاحقاً، وكذلك اقتراح الرئيس الروسي الأسبق ميدفيدف بإنشاء مركز للوقاية من الصراعات الأوروبية، وانتهى بالفشل أيضاً! وأعطى مؤشرات رقمية لما كان يهدد العالم من خطر نووي في وقت من ثمانينات القرن الماضي، إذ بلغ مجموع أعداد الرؤوس النووية لست دول نووية 64 ألف رأس نووي و592 موزعين كالتالي: الاتحاد السوفييتي 40 ألفا و159، الولايات المتحدة 23 ألفا و459، بريطانيا 350 ألفاً، الصين 522 ألفاً، فرنسا 360 ألفاً، إسرائيل 42 ألفاً. وبغض النظر عن مدى دقة هذه الأرقام فقد كانت مؤشرات خطيرة، ويضيف أن الرئيس الروسي بوتين قال له ذات مرة إن رئيس المفوضية الأوروبية اقترح عليه في لقاء بموسكو إقامة منطقة سوق حرة من لشبونة إلى فيلاديفوستك، وهذه المبادرة أيضاً كانت من الفرص الضائعة التي ضيعها الغرب على حد تعبير تيلتشيك!
وانتقد عدم الاستفادة من مقولة لرئيس الوزراء البريطاني الأسبق تشرتشل: "يجب أن تكون كريما بعد هزيمة عدوك في الحرب"، مذكراً بتجربة اتفاقية فرساي بُعيد الحرب العالمية الأولى والتي تضمنت بنوداً تمعن في إذلال ألمانيا المهزومة في الحرب، ما أدى إلى اندلاع شرارة الحرب العالمية الثانية لاحقاً على يد هتلر الذي ما كان مفترضاً أن تسمح ألمانيا والغرب بتسلمه السلطة في برلين.
الثالثة: وتتمثل في شهادة وزير الخارجية الأميركي الأسبق جورج شولتز الذي يروي أنه كان في زيارة رسمية للاتحاد السوفييتي عندما كان وزيراً للمالية، وزار على هامشها، بصحبة نظيره السوفييتي، النصب التذكاري في مقبرة الشهداء في لينينجراد (بطرسبورغ حاليا)، وأنه لاحظ تفجر دموع كل من نظيره السوفييتي والمترجم داخل المقبرة، وعندما وصل شولتز منصة النصب التذكاري أدى التحية، واعترف بدور ملايين الشهداء السوفييت في الانتصار على النازية في الحرب العالمية الثانية، لأنه نفسه على حد تعبيره شارك في الحرب وفقد فيها رفاقاً أعزاء عليه.
الرابعة: وتمثلها شهادة اليابانية سيتسكو تورلو، إحدى الناجين من محرقة هيروشيما النووية، وكانت شهادتها مؤثرة للغاية في وصفها الدقيق لفظائع المحرقة، كما تنم شهادتها عن تمتعها بوعي سياسي عال وروح إنسانية عالمية، مذكرةً بأن العالم كان مخطئاً حينما توهم بزوال خطر الأسلحة النووية بعد هدم جدار برلين، وناشدت البشرية بأن تستيقظ، إذ بات الخطر النووي خطراً أكثر من أي وقت مضى، ولا يجب أن تمر البشرية بمحرقة عالمية كالتي عشناها. ومن الواضح أنها أدلت بشهادتها قبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية الراهنة التي لمح خلالها الرئيس الروسي بوتين غير مرة بجاهزية أسلحة بلاده النووية، بعد ما وصل الناتو إلى أعتاب حدود بلاده من خلال دول حلفاء روسيا السابقين، ومنهم أوكرانيا، ونفذ صبر بوتين في فبراير الماضي وشن الحرب عليها.
والحال أن الشهادات الأربع المتقدم عرضها تنطوي على دروس حية بالغة الدلالة، على مخاطر تطور مسار الحرب الراهنة إلى استخدام السلاح النووي سواء من جانب روسيا، أو من جانب الغرب بقيادة الولايات المتحدة التي ما فتئت تلقي بكل ثقلها وحلفاؤها بمد أوكرانيا بالأسلحة المتطورة بلا انقطاع، منذ أكثر من ستة شهور على بدء الحرب، وعندما يحدث ذلك فلن يكون عندئذ رابح وخاسر في الحرب لأنها ستفضي إلى دمار جل كوكبنا، وهذا باعتراف وإثباتات قاطعة من قبل العلماء العقلاء لكلا الجانبين الروسي والغربي.