+A
A-

عبدالله غيث... فلاح سرقه الفن من العمودية

في الثالث عشر من مارس لعام 1993 توفي رجلٌ فلاح رفض أن يكون طبيبًا مثل والده العُمْدَة الدكتور، وانحصرت آماله في أن يكون فلاحًا يرعى الأرض ويزرعها بيده، و أيضًا فنانًا يستحضره المخرجون خصيصًا لأداء الأدوار الصعبة.


إنه الفنان الذي كان أبرع من قام بأدوار البطولة في المسرحيات الشعرية، وهو الذي نفخ فيها روح الحياة بعد أن كادت تفنى، وهو الذي كان مُهَابًا على خشبة المسرح، يعيش الدور ويمده بكل مهاراته وأحاسيسه حتى أن قرينة رئيس الجمهورية الراحل "محمد أنور السادات" السيدة "جيهان السادات" بكت على وفاته أو بالأحرى وفاة من يقوم بدوره في مسرحية "الوزير العاشق".

حاتم السروي
إنه الفنان الذي رشحه "يوسف بك وهبي" بجلالة قدره ليخلفه على خشبة المسرح، وهو الذي لم يتنازل من أجل السينما ولم يركض خلف مغرياتها حرصًا منه على المسرح، فظل يمثل فيه دون انقطاع حتى وفاته، وعلى خشبة المسرح القومي قدم المئات من المسرحيات التي كانت غالبًا مترجمة عن المسرح العالمي، وبفضله أصبحت المسرحية الأجنبية عربية تمامًا مثل ملامحه التي اكتسبها من قرية "كفر شلشلمون" التابعة لمركز منيا القمح بمحافظة الشرقية، والتي ولد فيها عام 1930.


إنه "الولد الشقي" الذي نجح في التعليم بصعوبة، ثم انقطع عنه تمامًا مدة عشر سنوات يعمل فيها بالفلاحة حتى طلب منه أخوه "حمدي غيث" وكان يُدَرِّس بالمعهد العالي للفنون المسرحية أن يلتحق بالمعهد لأنه ولا شك فنان.. وهكذا ترك عبد الله أرضه الكبيرة التي ورثها عن أبيه "الدكتور العمدة" الذي تعلم الطب في لندن وكان يجيد الإنجليزية، والذي تولى رئاسة قريته مع بوادر الحرب العالمية الأولى، وأنجب خمسة أبناء كان عبد الله أصغرهم، وأكثرهم حباً للحياة، فكان يخرج ويجري ويحرص على زيارة المسارح ودور السينما، ومن هنا أحب الفن، وظل يحبه حتى خرج من الدنيا ولم يخرج من قلوبنا.


عبد الله غيث لم يحترف التمثيل، بمعنى أنه لم يكن مهنته الأساسية، ولم يكن يعنيه أن يعيش منه؛ إذ كان يمارسه بروح الهاوي، فقد كان "مالك أطيان" ويكفيه أن يباشر أرضه، ولهذا كانت أعماله السينمائية قليلة، فلم يكن يقبل أي دور، وكان شديد التدقيق في اختياراته ولا نذكر له من الأفلام سوى " لا وقت للحب" الذي بدأ به مشواره السينمائي عام 1962، وبعده جاءت أفلام: "رابعة العدوية" و"ثمن الحرية" و"أدهم الشرقاوي" و"جفت الأمطار" و"السمان والخريف" و"حكاية من بلدنا" و"الحرام" وهو الفيلم المأخوذ عن رواية ليوسف إدريس، وليوسف إدريس أيضًا مَثَّلَ عبد الله على خشبة المسرح "ملك القطن".


وكان "غيث" يمثل أدواره في السينما والمسرح والتلفزيون الذي تألق فيه، ويحرص مع هذا على زيارة قريته مرتين كل أسبوع، وكم حلم أهل قريته أن يتولى عموديتهم بعد وفاة والده وأخيه الأكبر، وقد كان يعرفهم جميعًا دون مبالغة، يعرف آمالهم وآلامهم، ويجالسهم في ليالي السمر مرتديًا ثوبه الريفي وعليه عبائته، ليشرب "الجوزة" فقد كان من كبار المدخنين!.


وللأسف قام التدخين والإرهاق العملي بأسوأ دور في حياة عبد الله غيث، مضافًا إلى ذلك أنه كان يكره الأطباء، ولهذا لم ينتبه إلى إصابته بسرطان الرئة والكبد معًا إلا في فترة متأخرة، وتحامل على نفسه ليكمل مسرحية "آه يا غجر" كما حاول أن يتحامل في مسلسل "ذئاب الجبل" الذي كان يمثله في ذات الوقت، وبقي أربعة مشاهد في المسلسل لم يستطع إنجازهم من التعب.


ودخل غيث المستشفي وجاءه وفد من قِبَل الرئيس الليبي "معمر القذافي" الذي عرض عليه أن يستقل طائرة خاصة ليسافر بها إلى أي دولة متقدمة ليتلقى فيها العلاج، لكن "سبق السيف العَذَل" وقال طبيبه أن الوقت قد فات، ومات عبد الله غيث بطل المسلسلات الدينية والتاريخية بلا منازع، وأبرع من قام بدور "المتنبي". مات الفنان الذي تألق في "الفتى مهران" و"زيارة السيدة العجوز" و"الحسين ثائرًا".


وفي عام 1976 وقع اختيار المخرج السوري "مصطفى العقاد" على "غيث" ليقوم بدور "حمزة عم الرسول" في فيلم "الرسالة" العالمي الذي كانت له نسختان إحداهما بالعربية، والأخرى بالإنجليزية، وكان العقاد قد وضع خطته ليتعلم الممثلون المصريون والعرب من "أنتوني كوين" الذي قام بدور "حمزة" في النسخة الإنجليزية، وليتعلموا أيضًا من بقية الطاقم الأجنبي، غير أنه بعد مضي ثلاثة مشاهد ليس أكثر فوجئ العقاد بالفرق الكبير في الأداء الدرامي والإحساس، واكتشف أن عبد الله غيث يقوم بالدور أفضل من أنتوني كوين؛ بل إن "كوين" شهد بتفوق "غيث" وقال إنه لو مثل في السينما الأمريكية "هوليوود" لكان له شأن آخر.


وكما برع غيث على خشبة المسرح، كان بارعًا في التلفزيون حتى أنه مُنِحَ لقب "ملك الفيديو" من الجمهور والنقاد، وكان فاتحة أعماله التلفزيونية مسلسل "هارب من الأيام" الذي استولى به على قلوب المشاهدين، كما أننا لا ننسى أدواره في "محمد رسول الله" و"الصبر" و"المال والبنون" وأخيرًا "ذئاب الجبل" الذي كان يردد فيه عبارته الكوميدية "قبر يلم العِفِش" باللهجة الصعيدية، وكان لدور "علوان أبو البكري" الذي قام به تأثير واضح على المشاهدين والنقاد، فقد أثبت هذا الدور وحده أن غيث بدأ عملاقًا ومات أيضًا عملاقًا وأن معينه الفني لم ينضب على مدار ثلاثين عامًا.


ولا يفوتنا في الختام أن نذكر القارئ العزيز بأن من قام بالأداء الصوتي للنسخة المدبلجة إلى العربية من فيلم "عمر المختار" الذي قام فيه بالبطولة الممثل العالمي "أنتوني كوين" هو عبد الله غيث، ولهذا كانت العلاقة بين غيث وكوين علاقة مودة واحترام، وكان الفنان العالمي يقدر غيث ويحبه، بل قد أحبه كل طاقم التصوير الأجنبي في فيلم "الرسالة" وكانت أفضل ثروة لعبد الله غيث هي حب الناس، وحب الفلاحين الذين لما علموا أنه وافق على قبول عمودية قريتهم أقاموا الزينات ووضعوا المصابيح الكهربائية في شوارع القرية وعلى بيوتهم، وكأنهم في عيد، ولما سرقه الفن منهم حزنوا، لكنه قال لهم لن أترككم وأرشح لكم ابن عمي فأنا أثق به... وفي الثالث عشر من شهر مارس، فقدت مصر رجلاً نبيلاً كان ملكًا للأداء الرصين والإندماج في الدور، وكان قبل ذلك وبعده يعيش في قلوب الناس.. إنه عبد الله غيث الفنان الفلاح ابن الجميزة والمصطبة، وأبو المسرح الشعري.