العدد 4899
الإثنين 14 مارس 2022
banner
عمود أكاديمي د. باقر النجار
د. باقر النجار
دروس الحالة الأوكرانية
الإثنين 14 مارس 2022

لقد قيل الكثير عن الحرب الدائرة في أوكرانيا منذ اندلاعها قبل أكثر من أسبوعين من الزمان، والتي هي في جلها عبرت عن وجهة النظر الغربية، ولربما تضامن معها، وهناك القليل منها قد مثل وجهة النظر الروسية أو عبر عنها، إلا أن كمًا أكبر وجد في وسائط الاتصال الاجتماعي فضاء للتعبير عن وجهة نظره، وهي في جلها قد عبرت عن موقف النكاية من هذه الحرب. وبعض من هذا يدخل في عِداد الخيال، وإن جاء بعضها في إطار حرب التضليل الدائرة بين المعسكرين الروسي والغربي، أو مسربا من أجهزتها الاستخباراتية.
ورغم أن الصراع قد أطلق عليه بالحرب الروسية - الأوكرانية، إلا أنها في جوهرها تذهب أبعد من ذلك. فهو في حقيقته صراع روسي - غربي على مواقع القوة والتأثير في أوروبا والعالم. وما بات يتم تداوله من معلومات وتحليلات تشي في بعضها أو جلها إلى هذا الفهم.
وهي حالة رغم الدمار الذي بات يلحق بالدولة الضحية (أوكرانيا)، إلا أنها صراع يقدم دروسا مهمة، قد يكون أولها من حيث الأهمية حجم حضور العقل في إدارة الدولة في الداخل وفي علاقات الخارج. وهي علاقات تبقى في بعضها محكومة بجموح بعض القادة وفي تلك الانفعالية الزائدة في تبني مواقف معتمدة على الشحن الذي يخضعون إليه من حلفاء الداخل وفي تطمينات الخارج بالدعم من أطراف قد تأتي من خارج الإقليم، وهي حالة قد دفعت في الحالة الأوكرانية نحو تدمير بلد لعبت السياسات الخاطئة لبعض قادة الداخل جزءا منها. وهو قول لا ينفي حقيقة أن الكم الأكبر في التدمير قد جاء بفعل حرب الخارج على دولة مستقلة ذات سيادة، وهي حروب تجد القوى الأكبر والأعظم مسوغاتها وقدرتها على تطويع وتجميد كل قوانين العالم لصالحها. فالحرب ليست لها أخلاق، وهي تقوم على قاعدة الإكثار من الدمار في الأنفس والبنى الأساسية للمجتمع الضحية. وهو قول ينطبق على أي حرب شنت سواء من قبل أميركا أو روسيا أو كل حروب الإقليم العربي. فالرغبة في إيقاع أكبر قدر من الألم والدمار في الطرف المُعتدى عليه يدفع المُعتدي إلى الإيغال في التدمير لانتزاع تنازلات أكبر. وعالم ما بعد الحرب هو عالم جديد يصيغه الطرف الأقوى بعيدا عن كل مبادئ الأمم المتحدة.
أما الدرس الثاني، وهو في ذلك لا يقل أهمية عن الأول، وهو أن الدخول في أحلاف أو تعاون عسكري مع بعض قوى الخارج لا ينفي أن يتخلى عنك هؤلاء وقت الحاجة. فرغم كل التسهيلات الكبيرة التي قدمتها أوكرانيا لبعض المؤسسات الأمنية والعسكرية الغربية، إلا أن قدرة الحلفاء على التدخل، والدعم تحكمها المخاطر المدمرة لمثل هذا التدخل على الإقليم والعالم. واكتفى الحلفاء هنا بدعم مواقع دول المحيط، عسكريا، وعلى إجراءات واسعة من الحصار والمقاطعة الاقتصادية، وهو إجراء لا يُؤتي أكله سريعا.
وثالثا، فإن الحديث عن الحرب ورؤيتها على أرض الآخرين، غير أن تأتي على أرضك وتمزق مجتمعك. من هنا، فإن الدخول في الحرب إن هو إلا مغامرة، وهي مغامرة لا تقي الداخلين فيها من آثار مدمرة، تجاوزها والتعافي منها قد لا يأتي سريعا وقد لا يأتي. فبطولة القائد تتمثل في قدرته على تجنيب بلاده خضات الداخل ودمار حروب الخارج وإن قدم في ذلك تنازلات سياسية مؤلمة. وتوحي بعض تصريحات القادة الأوكران وبعض ما توحي بحالة من الوعي المتأخر.
ويتمثل الدرس الرابع في خطأ القيادة الأوكرانية ليس فقط في قراءة الموقف الروسي وعزمها على الغزو، بل إنها قد فشلت كذلك في قراءة الموقف الأميركي وعجز وتردد الموقف الأوروبي. ثم إن الدخول في الحرب قد يكون قرارا فرديا يتخذه رئيس دولة إلا أن تبعاته المدمرة تعم المجتمع ككل، وأن الخروج منها، كما هي كل حروب العالم، ليس بالأمر السهل، وهي كلما امتدت في الزمن أكلت من جسم الدول المتحاربة، وعقدت من إمكانات الحل.
وخامسا، فإن أوروبا كانت تعتقد أنها قد ودعت الحروب، مع حربها العالمية الثانية، قبل أكثر من سبعة من العقود. وها هي تشهد حربا مدمرة على أطرافها الشرقية، وإن لم تكون طرفا مباشرا فيها. وهي حرب كانت حلولها أسهل قبل أن تبدأ، إلا أنها وقد بدأت، فإن تعقيدات الحل قد بدأت تُشكلها. فالدولة الروسية التي بدأت هذه الحرب لن توقفها دون تحقيق أهدافها الرئيسة على الأقل. بالمقابل، فإن الطرف الغربي وتحديدا الأميركي تحديدا بات يرى فيها فرصة لإنهاك الطرف الروسي، وهي في ذلك قد شجعت الرئيس الأوكراني على رفض المطالب الروسية، وباتت تقدم له الدعم اللوجستي لزيادة أمد الحرب. وهي حرب الخاسر الأكبر فيها هو الشعب الأوكراني وبنية مجتمعه ومؤسساته. وهو في هذا وقد دخل الحرب، إلا أنه لن يعود إلى عافيته إلا على المدى المتوسط والبعيد. وهي عودة مؤلمة للمجتمع وبنيته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
وإلحاقا بالسابق (الدرس السادس)، فإن الحروب مهما كان أمدها، إلا أن آثارها على الداخل كما هو على الأقليم كبيرا. وهي في هذا تحدث تدميرا ليس فقط على البنية الأساسية للمجتمع، وإنما هي في تهجيرها للناس، فإنها تدمر أهم الروابط الإنسانية التي تتشكل في ضوئها ومن خلالها كل روابط المجتمع. كما أنها تعيد تشكيل خريطة تحالفات الخارج في مجال الإقليم والعالم، وهي قد تطيح أو تحد من تأثير بعض القوى لصالح أخرى جديدة أو ناهضة. وهي قبل أن يتم إسكات مدافعها باتت تخلق وضعا جيو - سياسي جديدا. كما أنها، في حالتنا هذه، في الوقت الذي أبانت الوهن الأوروبي، إلا أنها وفي ذات الوقت لا تعكس حالة استعادة امتلاك القوة والتأثير من الطرف الأميركي في مقابل الآخر. فالولايات المتحدة الأميركية قد وظفت صراع الحالة الأوكرانية؛ لإعادة تموضعها على الوضع الدولي، الذي اهتز أو وهن إبان حكم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. وهو تموضع حاولت أن تجسده من خلال حشدها الضاغط لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد روسيا. فنمط الإدارة المركزية في الحكم التي تقدمها تجربتا روسيا والصين أصبحت مستحسنة من قبل بعض المجتمعات الناهضة والتي باتت تتمرد على الهيمنة الأميركية.
إن اتخاذ قرار الحرب ليس قرارا حصريا على الدولة “التسلطية الدكتاتورية”، فالكثير من الأنظمة”الديمقراطية” قد شنت حروبا ضد دول أخرى أو تدخلت بشؤونها الداخلية. فالخبرة الأميركية والأوروبية في ذلك عديدة ولا تحصى. ثم إن إدارة الدولة في الدول الكبرى كما هو في الدول الصغرى، الديمقراطية منها والتسلطية، قد تكون واجهاتها شخصيات سياسية نعرفها منتخبة أو خلافه، إلا أن خلف هؤلاء تقبع الدولة العميقة غير المنتخبة واللا ديمقراطية. صاحبة القول الفصل في السلم والحرب. فقد يكون كما تقول وسائط الإعلام الغربية عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتن “شخصية فردية تسلطية”، إلا أن خلفه تقف مؤسسة الحكم والدولة العميقة التي تتشابه في وظائفها مع تلك المماثلة في الدول الغربية الديمقراطية. فالرئيس الأميركي جوزيف بايدن قد يكون رئيسا منتخبا ديمقراطيا، إلا أن خلفه كذلك تقبع مؤسسة الحكم والدولة العميقة والتي تدير الدولة بمنطق قد لا يكون ديمقراطيا أو عقلانيا. ثم إن معاداة الحزب الديمقراطي لروسيا ولشخص رئيسها فلاديمير بوتن وموقفها المتشدد والمتصلب منه، وهو موقف قد يعكس رغبة بالانتقام من تلك التدخلات السيبرانية وغيرها الروسية في الشأن الداخلي الأميركي وفي دعمها لوصول دونالد ترامب لكرسي البيت الأبيض في انتخابات العام 2015. وهو أمر تعكس حقيقة ما يسمى بالعقلانية السياسية الغربية الذي باتت تطيح بها صراعات القوة والنفوذ والمال في العالم.
وسابع هذه الدروس هو أنه رغم الحديث المتزايد في الفترة الأخيرة عن أفول الهيمنة الأميركية على العالم، إلا أن الحرب الأوكرانية قد أثبتت مرة أخرى أن الولايات المتحدة الأميركية ما زالت تمسك بالكثير من أوراق الضغط السياسي والاقتصادي في العالم، وأن كل الدول الأوروبية وجل دول العالم الثالث ما زالت بحاجة إليها، وأنها في ذلك ما زالت تخضع لأشكال متعددة من الضغط الأميركي، أو بالأحرى ما زالت غير قادرة على عصيان الأوامر الأميركية إلا في حدود.
وأخيرا، فإن النقل الإعلامي الغربي لحرب أوكرانيا بات يعكس ما أثير في بعض وسائل الإعلام العربية بالازدواجية المعيارية والأخلاقية الغربية، وهو موقف لا يعكس حقيقة أخلاقية أخرى مستيدة في الفضاء الثقافي السياسي الغربي، وهي معاداته لكل أشكال الأنظمة التسلطية خصوصا تلك التي لا يتشارك معها قيميا، وهو ما يعكس موقفه المضاد كرأي عام من النظام الروسي الذي لا يجد فيه إلا نظاما “دكتاتوريا”، وهي قيمة ناضلت هذه المجتمعات كشعوب ومنظمات في تأصيلها في فضائها الثقافي والسياسي، والموقف هنا نابع حقيقة من حالة عقلية - ثقافية لا تتسق مع حالة الثقافية - السياسية التي نحن عليها والتي تعظم من شأن الرئيس القوي وإن كان تسلطيا. أما موقف الحكومات الغربية، فيحكمه مصالح الطبقة السياسية والاقتصادية الغربية التي أحيانا بفعل ضغط الرأي العام والمنظمات الحقوقية قد تتخذ مواقف تبدو مبدئية. رغم أن كل ذلك يحدث في ظل تنامي شكل من أشكال العنصرية المتجه الجديدة ليس نحو الآخر ذي البشرة الصفراء أو السمراء وإنما ضد الآخر ذي البشرة البيضاء، متخذة هذه الدول سلسلة من الإجراءات المضرة بسكان ومستثمرين روس في الغرب، بل امتد كما تشير بعض الوسائل الإعلامية ليشمل أحقيتهم في التمتع ببعض الخدمات الاجتماعية. ولربما تأتي هذه الخطوات خصوصا الأميركية، وكأنها تنهي بذلك حالة التداخل والسيولة الاقتصادية ولربما الثقافية التي خلقتها عمليات العولمة خلال العقود الثلاثة الأخيرة. فإذا ما كانت سنتا العزلة التي فرضتها سنوات الجائحة أن تخفف من تدفق عمليات العولمة جاءت خطوات الحصار الاقتصادي والسياسي الغربي لتدشن مرحلة إنهاء العولمة (De-globalization). 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .