شاءت الأقدار أن يستقل لبنان العربي (1943) وفق صيغة ديمقراطية توافقية بين مكوناته الأساسية، وأياً تكن يد الاستعمار الفرنسي فيها - باطنة أم ظاهرة - لكن كان يُنشد منها أن تشكل حداً أدنى ممكناً من “النسيج الوطني”، بينما مر البلد طوال تاريخه منذ الاستقلال إلى يومنا هذا بهزات سياسية عنيفة بفعل تناقضات فئوية مفتعلة وتدخلات عربية ودولية؛ ما عرّض ذلك “النسيج” الجميل إلى حافة التمزق، وكاد يهدد كيان الدولة برمته، وكانت أخطر هزة الحرب الأهلية التي استمرت 15 سنة بين القوى اليسارية ذات الأغلبية الإسلامية - وبضمنها المقاومة الفلسطينية - من جهة، والقوى اليمينية ذات الأغلبية المسيحية من جهة أخرى، وخرج منها الطرفان خاسرين مُنهكي القوى، واعترف كلاهما على استحياء لاحقا بخطأ لجوئه للقوة لحل التناقض بينهما؛ بدلاً من الحوار الصبور ذي النفس الطويل، مهما بدا صعبا وشائكا، في حين كان الخاسر الأكبر بلدهما المدمر.
ومع ذلك لم تكن علاقات لبنان بمحيطه العربي - خصوصا مع دول مجلس التعاون - بهذا السوء الذي عليه اليوم، رغم ما شاب حينذاك خطاب الطرف اليساري اللبناني - الفلسطيني من تطرف، وإن بدرجات متفاوتة بين فصائله، لكنه استخلص العِبر الثمينة من تجربة الحرب المريرة، وأهمها استحالة فرض صيغة ذات صبغة يسارية أحادية على وطنه متعدد الطوائف والأحزاب.
هذا يعني أن لبنان لا يمكنه أن يعيش مستقراً بما يحفظ مصالحه وأمنه وسط محيطه العربي والدولي إلا وفق صيغته التوافقية التعددية، وفي بيئة سياسية عربية ودولية يأخذ في الاعتبار متغيراتها من مرحلة إلى أخرى، بعيداً عن الخطابات “الثورية” الملتهبة، لكن ما يُراد له اليوم – للأسف - أن يتبنى خطاباً متشدداً “ثورياً” على مقاس خطاب نظام الملالي “الثوري” الانعزالي الذي تتبناه بحذافيره قيادة حزب الله التابعة له، وهو خطاب رغم مرور أربعة عقود ونيف لم يغادر بعد منطق “الثورة” إلى منطق “الدولة”، ولم يتعلم كيفية بنائها وتبني مبادئ التعايش السلمي بين الدول ذات الأنظمة الاجتماعية المختلفة، والتي لا يمكن حفظ السلم العالمي وبناء التنمية الوطنية مع الإخلال بتلك المبادئ، دون مصادرة حق كل دولة في اختيار فلسفة حكمها الخاصة بها.