+A
A-

راشد نجم: العمل التطوعي في المؤسسات الثقافية تحول إلى واجهات شرفية ومصالح شخصية

هناك من يحاول بتغريب اللغة العربية وإبعادها عن المناهج لأغراض مكشوفة

أمنيتي أن يحظى الأديب والفنان البحريني المبدع بالمكانة التي تليق به

الفن والأدب هي رسائل إنسانية تحمل في طياتها بذور الخير والمحبة

الكتاب العربي يعاني ولا يزدهر توزيعه إلا في فترة معارض الكتب

لا يوجد اهتمام من الجيل الحالي بالتراث الشعبي إلا عند القلة

عندما استوردت الأغنية البحرينية مفرداتها وألحانها فقدت هويتها وتوازنها

الحديث مع الاديب القدير راشد نجم، هجرة إلى داخل الإبداع، تواجد في أحضان السحر والتأثير القوي. أديب وشاعر وفنان ومسرحي مقيد بحب المعرفة ولا يستطيع الإفلات والخروج منها، ويعد من الرواد الذين أحدثوا انقلابا فكريا وثقافيا في الواقع المحلي بأعماله الإبداعية وصنوف دراساته النقدية والأدبية والفنية، صامدا ساعيا لنشر الثقافة والأفكار النيرة مناوئا كل دجال مارق من أمثال رجال الطرق والزوايا.

وفيما يلي نص الحوار مع راشد نجم، الأديب الذي يحلو دبيب الندى في عروق كلماته:

يوجد في مجتمعنا نوعان من القراء. القارئ الأول وهو النسبة العظمى الكاسحة لا يزال يبحث حتى الآن عن الأدب الفارغ المسلي، والنوع الثاني هو القارئ المثقف الذي عمق اتصاله بالآداب ويشغل وقته ونشاطه في النتاج الفكري الغني. ما رأيك؟

من الطبيعي أن يكون هذا التقسيم موجودا في المجتمع، فهناك القارئ الذي يبحث عن مصادر الثقافة الجادة ويتابعها، وهناك القارئ الذي يبحث عن مصادر الثقافة المسلية ويتبعها، هي اهتمامات تتباين بين شرائح المجتمع؛ لتعكس الصورة النمطية لكل مجتمع من المجتمعات لاسيما وأن النتاج الفكري يسهم بشكل غير مباشر في هذا التباين، وانحسار الثقافة الجادة؛ كي تحتل مساحتها ثقافة التسلية التي ترضي شريحة كبيرة من المجتمع في الوقت الراهن

هل تتفق معي أن ما يهمنا ليس إحصاء المسرحيات، بل القضايا التي تثيرها الحركة المسرحية؟

بين الكم والنوع يكمن جوهر السر، فعند غربلة الكم نتوصل إلى النوع.. فالمسرح هو نبض الناس ومرآة قضاياهم وهمومهم اليومية، وبقدر ما يقترب المسرح من هذه القضايا ويعالجها بصدق وحيادية بقدر ما يضيف الى الإحصاء النوعي في الأعمال المسرحية المتميزة عددا جديدا.

هناك من يقول إن أدبنا قليل الإنتاج، ضئيل الحجم، قصير النفس، فليست هناك سوق رائجة للأدب توزع فيها الكتب.. هل تتفق مع ذلك؟

قلة الإنتاج الأدبي مرتبطة بظروف النشر والتوزيع، وتلعب السوق دورا في ذلك. الكتاب العربي عموما يعاني من ذلك ولا يزدهر توزيعه وانتشاره بشكل خاص إلا في فترة معارض الكتب التي تقام في دولنا العربية، لكن بالمقابل نشهد رواجا في مجالات أخرى من الإصدارات مثل الرواية وكتب الطبخ والكتب التي تهتم بالطاقة الذاتية وتطويرها، وينحسر الاهتمام بالشعر والكتب الفكرية، لكل فترة من الزمن اهتماماتها واتجاهات مؤشر سوقها.

يقول رائد القصة القصيرة محمود تيمور. الفن يرمي إلى الخير، ولا يكون الفن فنا إلا إذا كان الخير وجهته، والفنان لا يكون فنانا الا إذا كان الخير وحي فنه وغايته، أو بذرة الخير أصيلة كاملة في تلافيف هذا العالم. كيف ينظر راشد نجم للفن والأدب؟

الفن والأدب رسائل إنسانية تحمل في طياتها بذور الخير والمحبة، وتهدف الى تحسين حياة الناس بشكل إيجابي من خلال الأنماط الأدبية الإبداعية من شعر وسرد ونثر، والأنماط الفنية المبدعة من خلال الموسيقى والفنون التشكيلية لإيجاد محطات استراحة فكرية وأدبية وفنية مضيئة ومريحة في حياة البشر تساعدهم على استقبال الحياة والتعايش معها بسلام؛ من أجل تحفيز الطاقة الإيجابية الكامنة فيهم لتطوير هذه الحياة بما يناسبهم.

لماذا برأيك انحسر العمل التطوعي في المؤسسات الثقافية؟

لم يعد العمل التطوعي كما كان في السابق مع بدايات نشوء المؤسسات الثقافية وتطلعات مؤسسيها إلى ترسيخ قيم ومفاهيم اجتماعية وخلق نهضة ثقافية بعيدة عن المطامع الشخصية، حيث استقرت هذه المبادئ على مدى سنوات التأسيس الطويلة.

أما الآن، فقد تحوّل العمل التطوعي إلى واجهات شرفية ومصالح شخصية وترويج إعلامي عبر منصات التواصل الاجتماعي. رحل من رحل من المؤسسين والفاعلين في هذه المؤسسات. كما ابتعد الكثيرون من مؤسسيها بحكم الظروف المختلفة، وجاء جيل جديد يواصل العمل، ولكن بأسلوب جديد تفرضه طبيعة المتغيرات الاجتماعية التي طرأت، وهذا شيء طبيعي.

كان في السابق عند الترشح لعضوية مجلس إدارة لأي مؤسسة ثقافية في البحرين تجد العشرات ممن يرشحون أنفسهم لهذه المناصب تطوعا واختيارا وتحتار من تختار منهم.

أما الآن، فنحاول جاهدين إقناع من نتوسم فيهم الخير للترشح لعضوية مجالس الإدارة، وبصعوبة نتوصل إلى العدد المطلوب لعضوية هذه المجالس عبر عدة محاولات لإقناعهم.

في الستينات كانت هناك نهضة فكرية وأدبية برزت معالمها في حياة عقلية واعية ناضجة نشطت بها مختلف ألوان العلوم والفنون، عكس ما نعيشه اليوم رغم التقدم الهائل في شتى مناحي الحياة خصوصا التكنولوجيا الرقمية، ما السبب؟

لكل فترة زمنية معالمها ونهضتها وفرسانها وظروفها ووسائلها التي تترك أثرها وبصمتها في المجتمع. في السابق كان الكتاب والجريدة والمجلة والفكر النهضوي المصاحب لها هم الوسيلة المتاحة. الآن تغيرت الوسائل، فصارت التقنية بكل إيجابياتها وسلبياتها هي المسيطرة على حياتنا ومن خلالها نتلقى كل شيء.. بالإمكان النظر بإيجابية الى هذا التقدم التقني الهائل الذي لن نستطيع إيقافه، عن طريق المواءمة بين النهضة الفكرية والأدبية المعاصرة وإيصالها إلى المجتمع باستخدام وسائل التقنية الرقمية الحديثة وعدم رفضها.  

ما دور المهرجانات الثقافية والتراثية التي تقيمها دول الخليج بشكل دوري في مسألة الهوية والمحافظة على التراث. مثل مهرجان الجنادرية.. وملتقى الراوي وغيرها؟ 

تلعب هذه المهرجانات الثقافية والتراثية دورا مهما في تأصيل الهوية الوطنية وخلق جسر من الترابط بين الأجيال التي عاصرت هذا التراث وعايشته مشاهدة، وبين أجيال حديثة لم تتح لها فرصة معايشة هذا التراث بحكم التطور والتغيّر الحضري الذي مر على منطقة الخليج العربي، فتكون هذه المهرجانات هي استحضار لتلك الحقبة من الزمن من فنون وموسيقى ورواه كشواهد من التراث اللامادي تذكرهم بها، وإحياء ذاكرة المكان عن طريق ترميم وصيانة بعض المباني التراثية لتكون شاهدا حيا على تلك الحقب التاريخية كشواهد من التراث المادي. 

هل تشعر بأن هناك مشادة عنيفة بين القديم والجديد في الأدب؟

أنا أطلق عليها تجاذبا، وليست مشادة بين القديم والجديد، فكل طرف يتمسك بمبررات بقائه، وسوف تستمر هذه المجاذبة، ولن تنتهي، فهذه سنَّة الحياة. الجديد يحاول أن يفسح له مكانا؛ كي يتنفس فيه ويستمر. والقديم يتشبث بما لديه؛ كي لا يذوب في المياه القوية المندفعة للجديد

كيف ترى اهتمام جيل اليوم بتراثنا الشعبي الغني، وهل تم الاستفادة من التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي في الترويج لتراثنا وتعريف الناشئة... إلخ؟

للأسف الشديد لا يوجد اهتمام من الجيل الحالي بالتراث الشعبي إلا عند القلة المهتمين منهم الذين يحاولون المحافظة عليه بمختلف الوسائل المتاحة، فطوفان التغيير التقني يجرف معه كل شيء، لكن من المفرح في الوقت ذاته وجود محاولات جادة من قبل مؤسسات رسمية وأفراد بالاستفادة من هذه التقنيات لحفظ هذا التراث والترويج له للناشئة عبر منصات التواصل الاجتماعي مما قد يسهم في إبقائه حيا في ذاكرة هذه الأجيال. 

تعد الأغنية أحد أهم أعمدة الفلكلور عموما وهي الأساس.. تقييمك للأغنية البحرينية وأنت صاحب تاريخ في هذا المجال؟

لكل فن من الفنون عصره الذهبي الذي يتسيده، والأغنية البحرينية الحديثة عاشت عصرها الذهبي منذ بداية السبعينات حتى نهاية التسعينات رغم الصعوبات المادية والفنية لعدة أسباب أذكر منها:

  • وجود مجموعة من شعراء الأغنية الذين ارتبطت الأغنية البحرينية ومفرداتها الأصيلة المستمدة من البيئة البحرينية بكل ألوانها أمثال الشيخ عيسى بن راشد رحمه الله، علي عبدالله خليفة، حسن كمال، عتيق سعيد رحمه الله، إبراهيم عبدالعال، راشد نجم، إبراهيم الأنصاري، عبدالله سلطان الحمادي، مطر عبدالله، يوسف الرفاعي، وغيرهم
  • وجود نخبة من الملحنين الذين استمدوا ألحانهم من فنون البحرين الشعبية وتراثها مع لمسات جميلة من التطوير أمثال: عيسى جاسم وأحمد فردان رحمهما الله، خميس الشروقي، مبارك نجم، خالد الشيخ، حسن عراد، طارق الجودر، وغيرهم.
  • بروز مجموعة من الأصوات الغنائية البحرينية الجميلة التي أعطت للأغنية رونقها ومذاقها الذي تميزت به ورسم لها هوية خاصة أمثال الفنانين: إبراهيم حبيب، الراحل محمد علي عبدالله، أحمد الجميري، الراحل محمد حسن والذين كانوا في الوقت ذاته يقومون بالتلحين لهم ولبعض زملائهم من المطربين. ثم جاء بعدهم الفنانون عبدالصمد أمين، جعفر حبيب، يعقوب بومطيع، عبدالله بوقيس، جاسم بن حربان، ارحمه الذوادي، وغيرهم.

هؤلاء كانوا جميعا يشكلّون هوية الأغنية البحرينية بمفرداتها الأصيلة وألحانها الجميلة وأصواتها العذبة التي عرفت على مستوى دول الخليج العربي وميّزتها هذه الهوية التي كانت صناعة بحرينية خالصة، لكن عندما أضاعت الأغنية البحرينية بوصلة مسيرتها، وأصبحت تستورد مفرداتها وألحانها من الخارج تاهت في السباحة في مياه ليست مياهها، ففقدت هويتها وتوازنها بين الأمواج.   

لغتنا ليست لغة فعل حضاري؛ لأننا لسنا فاعلين في الحضارة حتى الآن، نحن لا نزال في مرحلة التلقي، واللغة أداة للناس... ما تعليقك وبصراحة؟

من قال إن لغتنا العربية ليست لغة فعل حضاري، وهي لغة القرآن الدائمة حتى يرث الله الأرض ومن عليها. هذه اللغة كانت صانعة للحضارة الإنسانية التي مازالت شواهدها في عالمنا العربي والإسلامي، وكذلك موجودة في بعض الدول الغربية التي حافظت على ما تبقى منها ولم تنكر على هذه اللغة وحضارتها تأثيرها على حضارتهم. اللغة العربية لغة قادرة على التكيف مع كل المتغيرات مهما حاول البعض الذين يحاربون هذه اللغة إظهارها كلغة عاجزة عن الفعل. العجز في هؤلاء الذين ينادون بتغريب اللغة العربية وإبعادها عن المناهج والعلوم بحجج واهية ولأغراض وأهداف مكشوفة، وليس في اللغة العربية ذاتها ما يحول دون ذلك. اللغة العربية هي لغة الشعر والأدب التي سطرت أجمل الإبداعات الإنسانية. وهي لغة العلوم التي ترجم الغرب مؤلفاتها وطوّر العلوم التي كتبت بها. ويتجه الغرب الآن إلى فتح المدارس والمعاهد؛ سعيا إلى تعلّمها وإتقانها إيمانا بما تحمله هذه اللغة من حيوية واستدامة عكس بقية اللغات التي تلاشت واندثرت على مر السنين، وحلت محلها لغات جديدة. 

حياتك الأدبية لها عدة وجوه.. الأغنية، المسرح، الفنون الشعبية والشعر. ما سر هذا الانعطاف وما قناعاتك التي جعلتك تتجول في كل تلك البساتين؟

في رحلة البحث عن شاطئ آمن للإبداع جالت تجربتي في محطات متنوعة كلها تتكئ على اهتمامات موجودة بداخلي وليست طارئة أو مجرد محاولات للبحث. في البداية كتبت الشعر العربي الفصيح العامودي والحديث بحكم وجود هذه الموهبة معي منذ مراحل الدراسة الإعدادية والثانوية وصقلتها تجربة دراستي للأدب العربي في كلية الآداب – قسم اللغة العربية بجامعة بغداد، حيث إن بغداد بلد الشعر والأدب والثقافة، فكنت أحد مؤسسي أسرة الأدباء والكتاب العام 1969

وكان للمسرح نصيب من تجربتي، حيث مثّلت على خشبة المسرح المدرسي منذ كنت طالبا في المرحلة الابتدائية بمدرسة المحرق الشمالية "عمر بن الخطاب حاليا" بعض المسرحيات التاريخية باللغة العربية الفصيحة، وهذا ما عزز اهتمامي بالمسرح، فكان تأسيس مسرح أوال العام 1970، حيث كنت أول رئيس لمجلس إدارته للسنوات الست الأولى من التأسيس، ثم اضطرتني ظروف السفر للخارج للدراسات العليا للتخلي عن الإدارة، ولكني مع المسؤوليات الإدارية قمت بالتمثيل في بدايات عروضه المسرحية مثل مسرحية "كرسي عتيق والسالفة وما فيها".

ثم اتجهت إلى كتابة الشعر الشعبي وأخذتني الأغنية إلى ضفافها، فكتبت ما يقرب من مئة أغنية عاطفية ووطنية وأوبريتات تم تقديمها في احتفالات عيد العلم التي كانت تقيمها وزارة التربية والتعليم.

وقد تغنّى بكلماتي معظم مطربي البحرين إضافة إلى بعض مطربي الخليج، وانشغلت كذلك بالفنون الشعبية التي يرجع الفضل في اهتمامي بها إلى والدتي رحمة الله عليها التي كانت حافظة وذاكرة حية للتراث.. وإلى المنطقة التي كنت أسكنها في شمال مدينة المحرق "فريج المري"، حيث تحيط بمنطقتنا أربع دور شعبية.. والملفت في الأمر أن الله وفقني في كل هذه المجالات المتنوعة والتي كانت ملامح بداياتها تسكن مراحل طفولتي.. فلله الحمد والشكر أولا وأخيرا.

أمنيتك وحلمك الساطع؟

الأماني كثيرة ولا تقف عند محطة عمرية معينة، ولكن أمنيتي أن أرى وطني مملكة البحرين رائدة ومتميزة بشبابها في مختلف المجالات الأدبية والفنية، وأن أرى مسرحا بحرينيا حديثا ومتطورا تقنيا تقام عليه العروض المسرحية والمهرجانات، وأن يحظى الأديب والفنان البحريني المبدع بالمكانة التي تليق به على مختلف المستويات، فهو الصورة الجميلة التي يعكسها أينما حل ورحل عن الوطن الذي نعشقه ونعيش على ترابه.       ​