+A
A-

علي عبدالله خليفة: لا قيمة لشاعر إذا كانت الناس من حوله لا تحفظ شيئاً من شعره

أعبر بعفوية عن مشاعري الذاتية وأحترم الشعر ولا أبتذله

للاستعمار وجوه قبيحة عديدة ومنها الاستعمار الثقافي

أفتقد الحوار الصريح العلني المباشر بين المبدع وجمهوره

لا توجد مؤسسة وطنية تعنى بتكليف نقاد مهمين لدراسة النتاج المحلي

هناك صراع أجيال ومصاعب جمة في قبول الجديد

يرى الشاعر القدير علي عبدالله خليفة أن الشاعر ليس مصلحاً اجتماعيا أو مرشداً تربويا يؤدي واجبات محددة، فهو طائر حر مجاله الفضاء الفسيح دون قيود. فالشاعر ملزم بفنه وبتطوير أدواته وبالتعبير عن خلجات روحه وما ينعكس على نفسه من أحداث زمانه دون قيود وبدون أية اشتراطات أو إملاءات، وهو معني بالتأمل والتفكر واجتراح الرؤى والصور الفنية المعبرة عن خلجاته دون زيف أو تزوير، وبدون ادعاء بطولات كاذبة.

من جانب آخر، ذكر شاعرنا صاحب التجارب العريقة التي تشبه نهرا عميق النبع أنه من السهل في زماننا طباعة أي كلام على الورق وإصداره في كتاب، لكن العبرة في أن يصل هذا الكلام حقيقة إلى الناس ويترك أثرا يبقى.

وفيما يلي نص الحوار مع على عبدالله خليفة..الشاعر الذي أشربنا من أباريق الفردوس إبداعا على مدى 50 عاما:

- الفنون العظيمة هي التي تصنع إنسان الغد وتصوغ له قواعد جديدة، فهل تعتقد أنك أسهمت بشكل ما في هذه الصياغة؟

الفنون وعوامل أخرى عديدة هي التي تصنع إنسان الغد وتصوغ له قواعد وأساليب حياة جديدة، والمبدعون هم من يستقرئ أحداث الواقع المعاش ويستشرف الرؤى المستقبلية. والمبدع الحقيقي يضيف من روحه وفكره وفنه لبنة تسهم في صنع إنسان الغد دون منّة منه ولا ادعاء، أنا مجرد مجتهد يحاول أن يعبر بصدق من خلال موهبته عن همومه ومشكلات زمانه التي قد تسهم رؤاه حولها لتكون عبرة لصياغة مستقبل أفضل.

- باعتبارك من الرواد..هل تعتقد أن الأجيال السابقة من الأدباء قد قامت بدورها لرعاية الجيل الجديد وتمهيد الطريق أمامه؟

نحن في زمن انغلاق الإنسان على نفسه، وتمحوره حول ذاته، وقد بذل كل جيل ما استطاع في حدود ما أتيح له وما كان يمكن في ظل ظروف زمانه ومدى قبول الجديد برؤاه وطروحاته. وبالتأكيد كان هناك صراع أجيال ومصاعب جمة في قبول الجديد، لكن كل زمان يفرض جديده وأدواته وينتصر.

كيف تتولد عندك القصيدة وبماذا تبالي في تكوينها؟

للشاعر مخيلة غنية وواسعة ترصد وتسجل أحداث يومه وتخزن انفعالاته تجاهها لتنضجها على نار هادئة، لذا تصبح الذاكرة مكنز للمشاعر الدقيقة تجاه كل ما يمربه الشاعر فتتكون لديه مجموعة من التجارب الشعورية وكلما نضجت تجربة من هذه التجارب فرضت نفسها على الورق، فالقصيدة لدي تكتب نفسها فلا أبتسر تجاربي الشعورية ولا أتكلفها ولا أحضر ورقا وقلما وأقول للقصيدة تعالي.

يختلط في كل تجربة شعورية عندي الحاضر بالماضي التاريخ بالجغرافيا الوطن بالأم البشر بالنخيل والتراب بالسحاب والمواويل بالمعلقات والسفر بذكريات قواقع البحار وجداول الأنهار والمطر بالندى والأعشاب في خليط عجيب يتماهى أمامي ليكون حروفا وكلمات على الورق تستدعي الماضي إلى الحاضر في توق لمستقبل جميل قادم.

بصراحة.. ما الذي تفتقده على طول وعرض الساحة الأدبية في البحرين؟

الأنشطة الثقافية على الساحة عديدة ومتنوعة، بجهود العديد من مؤسسات المجتمع المدني وأبرزها أنشطة أسرة الأدباء والكتاب وجمعية تاريخ وآثار البحرين ومركز عبدالرحمن كانو الثقافي وأنشطة جمعية البحرين للفنون الشعبية وهند جاليري وغيرها من الجهود الفردية الناشطة بتواضع على الساحة الدولية، كل ذلك في مواجهة اغتراب أنشطة أخرى لا تمت لنا بصلة. أفتقد في طول وعرض الساحة الأدبية الاحتضان الشعبي الذي كان يوما للحركة الأدبية، وأفتقد الحوار الصريح العلني المباشر بين المبدع وجمهوره وتلك الحميمية في متابعة الأنشطة الثقافية.

الأدب الشعبي يشبه إلى حد كبير من ناحية تنقله بين الاحاد والبيئات والأزمنة بالشعر العربي القديم الذي كان الشعراء فيه لا يسجلون شعره وإنما ينشدونه في المحافل ويتلقاه الرواة عنهم واحد عن واحد... رأيك؟

كان الشعر الفصيح يوما أحد فنون الأدب الشعبي لاعتماده الرواية في التواتر عبر الأجيال، وحتى يومنا هذا نادرا ما تجد إنسانا عربيا لا تحضره أبيات من الشعر الفصيح أو العامي يرويها باعتداد، فالشعر مكانة خاصة في الوجدان الشعبي بعامة وما تزال رغم المزاعم بعكس ذلك.

وقد ظل الشعر الفصيح من بعد ذلك حبيس الورق يعنى إليه من يهتم وواصل الشعر العامي ومعه الأزجال والمواويل والأبوذيات تنتقل على ألسنة الرواة والحفاظ إلى أن دوّن بعضها في منشورات شعبية لهدف الدراسة والتحليل.

النقاد الحقيقيون غائبون، ومرحلتنا تطفح بمدعي النقد ومخترعي الاصطلاحات هل توافقنا الرأي؟

النقد مجال علمي وفني وهو عملية عسيرة وطريق شاق يحتاج العديد من التمكن وامتلاك الأدوات والذائقة المرهفة الحساسة، وإذا عددت المجيدين من نقاد الأدب في زماننا ستجد بعضهم من أخذ على عاتقه وضع العديد من الدراسات والأبحاث حول الشعر والرواية مركزين على النتاج الصادر عن دول المركز مهملين دول الأطراف ومنهم البحرين، والبعض منهم منشغلون بالعديد من الدراسات والأبحاث النظرية لتأكيد وجودهم وتثبيت أقدامهم، وقليل من يتابع منهم النتاج الأدبي الجديد، ويعمل على تقييمه وتوجيهه. ومما يؤسف له عدم وجود مؤسسة وطنية تعنى بتكليف نقاد مهمين لدراسة النتاج المحلي وتقييمه وكما ترى فالأدباء بمجهوداتهم الفردية يسعون إلى ذلك وقد توجهت أسرة الأدباء والكتاب مؤخرا لإصدار دراسات نقدية موثقة حول أدب البحرين وهو مما يعتدد به. ونتطلع إلى أن يبرز نقاد بحرينيون جدد يصنعون حركة نقدية جديدة متخطين كل الصعاب والعثرات، وهو أمل عزيز ليس ببعيد.

ما سر الاستجابة الجماهيرية لقصائدك...أشعر أن هناك لغة جسر بينك وبين المتلقي؟

لدي إحساس بأن الجماهير التي تصلها أشعاري تجد نفسها في أغلب قصائدي، وليس في الأمر سر، فأنا ببساطة أعبر بعفوية عن مشاعري الذاتية التي هي نبض الشارع دون افتعال أو تعال وفي الوقت ذاته أحترم الشعر ولا أبتذله، ولا أعتبره مادة للتعالي على الآخرين، فلا قيمة لشاعر في أي مكان وأي زمان إذا كانت الناس من حوله لا تحفظ شيئا من شعره حتى ولا بيت شعر واحد تردده. فمن السهل في زماننا طباعة أي كلام على الورق وإصداره في كتاب، لكن العبرة في أن يصل هذا الكلام حقيقة إلى الناس ويترك أثرا يبقى.

هناك مقولة شائعة تقول..إن هذا الشاعر أو ذاك ابن مرحلته وقد عبر عنها دون تخلف أو تجاوز..هل هذا صحيح؟

يظل الشاعر الحقيقي شاهد عصره، بمعنى أنه المعبر حقيقة عن أزمات روحه في مواجهة ظروف العصر ومكابدات عواطفه في ظل بيئته.. مزروعا في قلوب أهله طالعا من قلب الأحداث شعلة منيرة.

ما هي نقطة التحول في تجربتك الشعرية؟

في نظري أن الشاعر ليس شاعرا فقط وهو يكتب القصيدة، إنما هو كائن يقظ متوتر ومتوجس يتحرى حدثا وينتظر التماعه، لذلك نقاط التحول في تجربة الشاعر المبدع تصنعها ظروف الحياة من حوله وهي تنعكس على ذاته.

لذا فهي ليست نقطة، بل هي عدة محطات وليست محطة واحدة، فلكل مرحلة عمرية تحولها العجيب في تجربتي الشعرية، فعلى سبيل المثال تأسيس حفظي للقرآن الكريم وأنا طفل وتربيتي في محيط يحتفي بالموال والشعر الشعبي وانكبابي على القراءة وحفظ الأشعار والتعرف على فنون الإلقاء وارتباطي بالدراسات الميدانية لجمع وتدوين الثقافة الشعبية وانشغالاتي بأعمال المنظمة الدولية للفن الشعبي وصداقاتي الحميمة للعديد من الأجناس بمختلف البلدان وغيرها من المحطات العديدة التي اعتبرتها نقاط تحول ساعدتني في كل مرحلة عمرية على اكتشاف ما يعزز ويثري تجربتي الشعرية وينوع مصادرها.

يعفي سارتر الشاعر من الالتزام شأنه في ذلك شأن جمهرة نقاد الغرب، ويعتمد في ذلك على مفهوم الشعر الغنائي. فالشاعر يعتمد على الصورة، لا على الشخصيات والأحداث، وتعتمد الصور على قوتها الإيحائية في الألفاظ والجمل على حسب موسيقاها..هل توافقه ؟

ليس الشاعر مصلحاً اجتماعيا أو مرشداً تربويا يؤدي واجبات محددة، فهو طائر حر مجاله الفضاء الفسيح دون قيود. فالشاعر ملزم بفنه وبتطوير أدواته وبالتعبير عن خلجات روحه وما ينعكس على نفسه من أحداث زمانه دون قيود وبدون أية اشتراطات أو إملاءات، وهو معني بالتأمل والتفكر واجتراح الرؤى والصور الفنية المعبرة عن خلجاته دون زيف أو تزوير، وبدون ادعاء بطولات كاذبة.

هل تؤمن بالاستعمار الثقافي؟

الثقافة هي المكون الأساس لهوية كل أمة، وللاستعمار وجوه قبيحة عديدة ومنها الاستعمار الثقافي، فالمستعمر بإمكانه تسطيح وطمس الثقافة الوطنية لأي شعب من الشعوب، لفرض ثقافته الخاصة.

ومقياس ذلك بسيط، حين تسأل المتعلمين وطلاب الجامعات بأي بلد:ما هي مكونات ثقافتكم الوطنية؟ ويحارون بماذا يجيبون، فاعلم بأن ثقافة هذا البلد قد طُمست بفعل فاعل، ربما يكون بيد أداة من بين أهلها. ولا غرابة في ذلك، فعلى مر التاريخ كان هناك من يخون ثقافة بلاده بتفريغها من محتواها الوطني وتقديمها بصورة هزيلة أمام ثقافات الشعوب العظيمة، مع التنكيل بمنتجي تلك الثقافة والعمل على طمس وجودهم بالعديد من الوسائل الذكية خلاف السجون والاغتيالات.

هل صحيح أن أخطر شاعر على الشعر على الاطلاق، هو الشاعر الذي يجعل "الأيديولوجيا" التي ينتمى إليها هي التي تملي عليه شعره؟

الشاعر كإنسان هو عجينة أفكار ومشاعر، ويعتبر نتاجه الشعري في كل الأحوال إفرازا لما يختزن من أفكار وأحاسيس مهما كانت، لكن من غير الجائز أن يقبل شاعر حقيقي بأن تملى عليه الأفكار ليعبر عن مشاعر زائفة لم يعايشها.