+A
A-

فيلم "قاهرة نجيب محفوظ“ .. عندما يكون المكان فلسفة

كنت من المحظوظين لمشاهدة فيلم "قاهرة نجيب محفوظ“ للمخرجة المبدعة أميرة الفقي التي خصتي حصريا لمشاهدته والكتابة عنه قبل عرضه للجميع قريبا في جميع المنصات والشاشات.

يتناول الفيلم القصير الأديب المصري الكبير والذي لا تزال رواياته تحقق أعلى المبيعات في منطقة الخليج العربي، وقدمت بذكاء المخرجة المصرية الفيلم من خلال ثيمة خاصة جدا عند متابعي صاحب النوبة الراحل وهي ”المكان“ عنده، والتركيز عليه من خلال الأماكن التي كان يحبها مثل شارع المعز ومنطقة الجمالية، وهي مسقط رأسه، وأحياء القاهرة الشعبية القديمة التي جسدها في الأفلام والروايات، وجعلت أميرة المكان محور التوثيق في الفيلم، والذي كان بالنسبة لمحفوظ الخيال المصري الجميل إلى كل بقعة من العالم، ويعتبر الفيلم متعة استثنائية، فهو ينقلك إلى زمن أحداث روايات نجيب محفوظ وتعيش معه الأماكن الأصلية التي تحدث عنها في رواياته مثل بين القصرين، وزقاق المدق وغيرها، وهي أماكن ارتبط بها جدا في كتاباته.

يتمحور الفيلم والذي مدته نحو خمس وأربعين دقيقة أيضا على الانتماء الروحي لكل واحد منا بالمكان الذي يعيش فيه، أزقة وشوارع بالرغم من اي شيء، أماكن فيها حنين للماضي وحب وعودة إلى الجذور الأصلية، فكان نجيب محفوظ دائما يشدد على هذه الأمور بعدم الابتعاد أبدا عن الرموز التي تربطنا بوطننا، وهذا بالطبع من الكلمات المهمة في أدبه، حيث يحث على حب الوطن ويبث روح الانتماء عند قراءته.

من عدة زوايا يسلط الفيلم أيضا من خلال فلسفة المكان عين نجيب محفوظ، وماذا يرى في هذه الأماكن التي ربما هي عادية عندنا، لكنها عظيمة عنده، مثل الزقاق الضيقة والسطوح والعوامة وغيرها من الأماكن، هي زوايا في عين الأديب الكبير تتحول إلى فلسفة، فالزقاق الصغيرة عنده تتحول التاريخ كامل لمصر وهكذا، وأجادت المخرجة نقل ذلك وكأننا نرى من خلال عين الأديب ما يراه، وكيف يعظم هذه الأماكن والتي ظهرت في أفلام سينمائية كبيرة مثل الحرافيش، والثلاثية، وثرثرة فوق النيل، وغيرها.

الفيلم من أفضل ما قدم للأديب المصري بتناول الدقيق وتفاصيله، وكانت المخرجة أميرة الفقي ذكية في تقريب هذه الفلسفة في صور وفيديوهات أرشيفية صعبة المنال، وهذا يدل مدى تأثرها به وحبها له، فهو استطاع أن يقدم القاهرة بصورة عالمية لا تموت أبدا ببساطة المكان الذي قدمته المخرجة، ونحن اليوم وسط استعمار المنصات التلفزيونية في الإنترنت في حاجة ملحة لمشاهدة أفلام عظيمة مثل هذ الفيلم، وفيه نكتشف الاختلاف بين الماضي والحاضر في المكان نفسه، وكيف استطاع نجيب أن يكتب أمس للغد كنوع من المحاكاة.