+A
A-

أكاديمي بحريني بعلم الفيروسات يروي العبرة من أكبر الكوارث الطبيعية بالبشرية

في الحادي عشر من شهر مارس 2020 صنفت منظمة الصحة العالمية وباء فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) بأنه جائحة، بعد أن أصبح من الواضح انتشار الفيروس السريع في معظم أنحاء العالم.

لكن التاريخ يحمل في طياته العديد من قصص تفشي الأمراض والأوبئة في العالم، ولقد تعلمنا من كل منها شيئا عن كيفية مكافحتها.

تعتبر جائحة الإنفلونزا الاسبانية في عام 1918 أحد أكبر الكوارث الطبيعية في تاريخ البشرية، حيث يقدر المؤرخون أن ما بين 50 إلى 100 مليون شخص توفوا جراء الإصابة بالإنفلونزا في جميع أنحاء العالم وقد تفشى الوباء إلى درجة أنه أصاب ثلث البشر في ذلك الزمان.

في ذلك الحين لم يكن هناك لقاح لفيروس الإنفلونزا بل حتى لم يعرف ان سبب المرض هو فيروس وكانت التدخلات الطبية غير فعالة قياسا بيومنا هذا، لذا لجأ العالم الى ما نعرفه الآن على أنه التباعد الاجتماعي.

تم إغلاق المدارس والمطاعم والشركات، تم حظر التجمعات العامة، أمر الناس بالعزل والحجر الصحي، وفي بعض الأماكن استمرت هذه الإجراءات لعدة أشهر.

لم تسر الأمور بشكل مثالي لأن العدوى في بعض المدن كانت أسوأ بكثير من غيرها، ولم يطع الناس دائمًا ما كان الخبراء والمسؤولين يخبرونهم به، لكن الدراسات تشير إلى أن جهود التباعد الاجتماعي ساعدت على إبطاء انتشار الوباء وخفضت معدل الوفيات بشكل عام.

إليك ما يمكن أن نتعلمه من تجربة التباعد الاجتماعي لوباء إنفلونزا عام 1918:

1) الإجراءات المبكرة والمستمرة والمتعددة المستويات تنقذ الأرواح

لعل من أهم الدروس التي نتعلمها من جائحة إنفلونزا 1918، الحاجة إلى اتخاذ إجراءات سريعة وإلى استمرار هذه الإجراءات حتى يزول الفيروس، ونحن بحاجة إلى بذل كل ما في وسعنا في هذه الأثناء.

وجدت مجموعة من الباحثين الأمريكيين في دراسة نُشرت عام 2007 في المجلة العلمية JAMA، إن أكثر الأساليب الوقائية نجاحًا في عام 1918 اتبعت هذه المكونات الثلاثة:

أولاً: كانت مبكرة - خاصة قبل وصول الإنفلونزا إلى المرحلة الحرجة حيث يكون الفيروس قد أصاب عددا كبيرا الناس وانتشر بسرعة.

ثانيًا: كانت مستمرة - استمروا بالإجراءات الاحترازية حتى بدا الفيروس وكأنه يزول حقًا، وسرعان ما أعيد تطبيقها إذا عاد الفيروس بالانتشار.

ثالثًا: وضع أفضل السياسات - لم يكن كافيا فقط إخبار الناس بالبقاء في المنزل، لأنهم قد يشعرون بالحاجة إلى الذهاب إلى الخارج، أو قد يتجاهل البعض منهم التوجيهات ويصر على الخروج إلى أماكن الترفيه او زيارة الاصدقاء أو الذهاب التجمعات الكبيرة الأخرى كأماكن العبادة.

لذا تم جعل أي من ذلك صعبا عن طريق وضع قيود على الحركة وتطبيق هذه القيود.

من الناحية العملية، كان هذا يعني منع كل جانب من جوانب الحياة العامة، من العمل الى المدارس إلى المطاعم إلى أماكن الترفيه (مع بعض الاستثناءات لمحلات البقالة والصيدليات).

يشبه أحد الباحثين في هذه الدراسة: "كل سياسة تشبه شريحة الجبن السويسري، أنت تريد وضعها فوق بعضها البعض حتى تكون الثقوب أصغر".

وأيدت دراسة أخرى نُشرت عام 2007 في المجلة العلمية PNAS هذا الأمر: كانت المدن الأمريكية التي تم فيها تنفيذ الإجراءات الوقائية المتعددة المستويات في مرحلة مبكرة من الوباء ذا ذروة معدل وفيات 50% أقل من تلك المدن التي لم تفعل ذلك وكان المنحنى الوبائي أقل حدة.

كما أظهرت المدن التي نفذت فيها تدخلات متعددة في مرحلة مبكرة من الوباء انخفاضا في معدل الوفيات التراكمي بنسبة 20%.

يسمى هذا في علم الوبائيات بتسطيح المنحنى وهو نشر معدل الإصابة على فترات أطول بحيث لا تعجز أنظمة الرعاية الصحية والمستشفيات عن متابعة الاعداد المتزايدة للمرضى، وبالتالي تكون مجهزة بشكل أفضل لمداواة المرضى وتطبيبهم.

للأسف لم تقم جميع المدن الأمريكية بتطبيق الإجراءات بشكل جيد.

تأمل هذا الرسم البياني من دراسة PNAS، والتي تظهر أن مدينة فيلادلفيا شهدت ارتفاعًا كبيرًا في الوفيات، في حين أبقت مدينة سانت لويس عدد المتوفين منخفضا بشكل عام:

 

لم تتبع فيلادلفيا تدابير التباعد الاجتماعي بشكل جدي في حين قامت سانت لويس بتطبيقها حرفيا، كمثال واحد فقط ، لم تلغ فيلادلفيا موكب استقبال العائدين من الحرب العالمية الأولى في ظل انتشار الإنفلونزا مما أدى على الأرجح إلى الآلاف من الإصابات.

2) شهدت المدن التي خففت القيود مبكراً موجة أخرى من ارتفاع الحالات

نقطة أخرى تستحق التأكيد يجب أن تستمر ممارسات التباعد الاجتماعي والوقاية، مهما كان الانزعاج والأضرار الناتجة من القيام بها لأشهر، فهذا ضروري لإنقاذ أكبر عدد ممكن من الأرواح.

توضح الدراسة السابقة ما يلي: عندما بدا أن الوباء قد بدأ  في الانحسار، تراجعت مدينة سانت لويس عن إجراءاتها للتباعد الاجتماعي ولكن اتضح أن هذا التراجع كان سابقٍ لأوانه وبدأت الوفيات في الزيادة مرة أخرى.

 أنتجت عمليات التراجع المبكرة في العديد من المدن الكثير من المنحنيات الوبائية مزدوجة السنام، حيث وضع المسؤولون تدابير التباعد الاجتماعي فانخفضت حالات الإصابة بالإنفلونزا، ثم الغيت هذه التدابير فشهدت حالات الإنفلونزا ارتفاعاً مرةً أخرى، مما اضطر المسؤولين الي إعادة تطبيق التدابير الوقائية.

من الجدير بالذكر أن الارتفاع الثاني في الوفيات (السنام الثاني) لم يظهر إلا عندما أزالت المدن تدابير التباعد الاجتماعي، فمن بين 43 مدينة لم تجد الدراسة أي مثال لمدينة استمرت في تطبيق التدابير الاحترازية وكان لها ذروة ثانية لارتفاع الحالات.

العبرة هنا هو عدم التراجع عن إجراءات التباعد الاجتماعي مبكراً، سيكون هذا إجراءً صعبًا على الحكومات، لأنه سيكون من الصعب التنبؤ بموعد اختفاء فيروس كورونا المستجد في ظل عدم وجود لقاح.

ويجب موازنة مكاسب الصحة العامة مع الضغط الذي سيشكله التباعد الاجتماعي والضرر الذي سيلحقه على الاقتصاد بشكل عام – وخاصة بالأسر التي تحتاج إلى مغادرة منازلها للحصول على مصدر دخلهم الوحيد. فيما يخص وضعنا الحالي قد تكون هناك حاجة إلى التباعد الاجتماعي لأشهر، ربما حتى يتم إنتاج لقاح، لإنقاذ الأرواح.

3) رؤية آثار تفشي المرض دفعت الناس إلى الالتزام

بالنظر إلى المدة التي قد يكون من الضروري الالتزام فيها بتدابير التباعد الاجتماعي، يقلق الخبراء من ان التزام الأفراد لن يكون مستدامًا لأسابيع أو أشهر.

حتى بعيدًا عن الأضرار التي ستلحق بالاقتصاد وفقدان الدخل، سيفتقد الناس الكثير من التجارب الشخصية التي أثرت حياتهم من قبل.

لكن الناس قد التزمت بتدابير التباعد الاجتماعي لأسابيع وشهور خلال جائحة إنفلونزا عام 1918، وتعطي الدراسة تفسيرًا واحدًا لذلك: كان الناس بالفعل على دراية كبيرة بالمخاطر إذا لم يلتزموا.

في ذلك الوقت كانت الأوبئة والأمراض شائعة، كل شخص كان يعرف شخصًا ما - من الآباء إلى العمات والأعمام إلى الأطفال - مات بسبب الوباء.

اعتاد الناس في ذلك الزمن على العيش مع الأوبئة طوال الوقت، كان هناك وباء انفلونزا في عام 1890، كان هناك وباء شلل الأطفال في عام 1916، كان هناك الدفتيريا (الخُنَّاق) والسعال الديكي والحصبة والجدري خلال تلك الفترة.

 كانت الأمراض المعدية وآثارها الفتاكة جزءًا من ذاكرة الناس، لذلك أضحوا يدركون معنى وأهمية الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي.

 اليوم قلة قليلة منا لديها هذه التجارب، لم تكن هناك جائحة كبيرة على مستوى العالم منذ عقود.

الخلاصة كلما رأى الناس الآثار المدمرة لفيروس كورونا المستجد في مجتمعاتهم، كلما دفعهم إلى مزيد من الالتزام بالتباعد الاجتماعي لفترات قد تبدو غير محتملة اليوم.

ومع ذلك كلنا أمل الا نرى بشكل مباشر تلك الآثار المدمرة في بلداننا ونتعظ بنتائج الانتشار الكارثي للفيروس في بعض الدول كإيطاليا وإسبانيا والولايات المتحدة الأمريكية.

4) القيادة الجادة على جميع المستويات

أحد الدروس الرئيسية من المقارنة بين مدينتي سانت لويس وفيلادلفيا، القيادة الجيدة تحدث فرقاً. في عام 1918، كانت هناك بعض المدن الأمريكية التي كان فيها قادةٌ جيدون حقًا، لقد كان لديهم بالفعل مفوضون صحيون جيدون عملوا بشكل جيد مع رؤساء البلديات ومع مديري المدارس وقوات الشرطة والاعلام والمنظومات الصحية بشكل عام.

ثم في المقابل هناك قادة آخرون سيئون، في فيلادلفيا وبيتسبرغ كان حاكم الولاية على صراع مع مفوض الصحة ورئيس البلدية بالولاية.

يقول الخبراء أن هذا أمر أساسي فحينما يُطلب من الشعب تقديم تضحيات بأن يعزلوا أنفسهم عن أحبائهم، ويتخلون عن الأنشطة التي يحبونها، بل ربما يفقدون مصدر دخلهم، فلابد من قادة المجتمع ان تكون على كلمة واحدة ويوجهوا العامة ويؤكدوا لهم أنهم يفعلون الشيء الصحيح وأن هناك ضوء في نهاية النفق.

على سبيل المثال نجد في وقتنا الحالي، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترامب قلل في البداية من أهمية الفيروس التاجي المستجد، في مرحلة ما كان يقول إنه سيختفي بسرعة، بل انه زعم أن المخاوف بشأنه خدعة.

كان يناقض خبراء الصحة العامة لديه وكانت إدارته بطيئة في الاستجابة للوباء، سواءٌ من خلال تجهيز الاختبارات الكافية أو تقدم إرشادات واضحة حول ما يجب على الناس القيام به وكانت النتيجة أن الولايات المتحدة تتصدر العالم حاليا في عدد المصابين.

حدث بعض من هذا في جائحة إنفلونزا عام 1918، حيث قلل المسؤولون الحكوميون من تفشي المرض لحماية الروح المعنوية للأفراد خلال الحرب العالمية الأولى وكان الضرر واضحا.

 إن انعدام الثقة جعل من الصعب تنفيذ تدابير الصحة العامة الحاسمة في الوقت المناسب، لأن الناس لم يعد يصدقوا ما يقال لهم. وبحلول الوقت الذي اضطرت فيه الحكومة إلى الشفافية بشأن الوضع، كان الوقت قد تأخر جدا حيث انتشر الفيروس على نطاق واسع. لذا فإن عدم الشفافية وانعدام الثقة يكلفان الكثير من الأرواح.

نحن في وضع أفضل بكثير للتعامل مع وباء الكورونا مما كنا عليه قبل مئة عام

لدينا نظام رعاية صحية أفضل بكثير، لدينا أشياء كثيرة لم تكن موجودة في ذلك الزمن: من اللقاحات، إلى جميع أنواع المضادات الحيوية، الى أجهزة التنفس الصناعي، الي اقسام العناية المركزة والعزل لذا فإن العالم مجهز بشكل أفضل للتعامل مع أي نوع من الأوبئة.

كما تحسنت جودة تعليم وتدريب مقدمي الرعاية الصحية، في عام 1910 كان هناك تقرير طبي مشهور يسمى "تقرير فليكسنر" نتج عنه إغلاق نصف كليات الطب الأمريكية خلال عام تقريبًا.

في عام الجائحة 1918، كان لا يزال هناك الكثير من خريجي تلك الكليات والذين يمارسون الطب على الرغم من ان بعضهم كان متخصصا في علم النبات، او العلاج البديل او العلاج بالأعشاب - جميعهم حصلوا على درجة دكتور في الطب من تلك الكليات.

لم يعرف الناس في ذلك الوقت أن الإنفلونزا سببها فيروس، اقترح البعض أنها كانت محاذاة خاطئة للكواكب، وأعتقد البعض الآخر أن السبب كان الشوفان الروسي الملوث، أو الانفجارات البركانية.

في حين ركز علماء الأحياء الدقيقة على البكتيريا التي اكتشفوها قبل عقود في رئتي ضحايا الإنفلونزا، وأطلقوا عليها اسم عصيات الإنفلونزا"” Bacillus influenzae.

في عام 1933 تمكنت مجموعة من الباحثين البريطانيين من عزل الفيروس المسبب للإنفلونزا، وأخيرًا في عام 1940، التقط المجهر الإلكتروني الذي تم اختراعه حديثًا صورة لفيروس الإنفلونزا، وللمرة الأولى في التاريخ، لم نتمكن من معرفة سبب الإنفلونزا فقط بل أيضًا من رؤيته.

لا شيء من هذا يعني أن وضعنا مثالي في الوقت الحالي، فكما اتضح لنا من جائحة الكورونا أننا ما زلنا غير مستعدين لوباء بهذا الحجم.

على الرغم من قدراتنا الكبيرة على إنتاج اللقاحات، لا يمكن تصنعيها على الفور، وربما يموت الآلاف إن لم يكن الملايين الى ان يتم تطوير لقاح فعال في العام المقبل.

ولكن قطعا وقتنا أفضل بكثير مما كنا عليه قبل مئة عام، ونحن نكتشف علاجات جديدة لجميع أنواع الأمراض طوال الوقت وقد يكون العلاج الناجع للكورونا على الأبواب.

أحد الدروس الرئيسية من جائحة الإنفلونزا الإسبانية ألا نمل ونترك إجراءات التباعد الاجتماعي مبكراً، حيث أدى التخلي عن مثل هذه الإجراءات في وقت مبكر- في المدينة تلو الأخرى - باستمرار ظهور حالات الإنفلونزا وزيادة الوفيات مرة أخرى.

إن التباعد الاجتماعي واستراتيجيات الصحة العامة، وان كانت بسيطة، ناجعة  وتسهم في إنقاذ الأرواح.

وإذا استطاع الناس تطبيقها في ذلك الوقت، فقطعا نحن نستطيع القيام بها الآن، معاً ضد الكورونا.