أكثر ما يحيرني هو تردي حركة النشر في الدول العربية، وسد أبواب المعرفة بصورة مذهلة، والإقبال على الكتب الرخيصة والعادية التجارية والابتعاد عن الكتب الأدبية والثقافية والعلمية الرصينة، وهذا ما اكتشفته شخصيا خلال تجوالي في معرض البحرين الدولي للكتاب الأخير، وكذلك ما سمعته مرارا من بعض الأصدقاء الذين زاروا معارض عربية دولية معروفة، فالذي أعرفه أن دور النشر في الغرب تتبع قاعدة لا يمكن الخروج عنها وهي تشكيل لجان متخصصة للحكم على أية مخطوطة تصل للدار، واعتماد قياس النشر المخطوطة وليس صاحبها، فمثلا تلقت إحدى دور النشر الفرنسية في عام واحد 2000 مخطوطة نشرت منها 96 فقط، ودار نشر روسية تلقت في عام 2016 حوالي 3500 مخطوطة ونشرت ثلثها فقط، وأتصور أن هذه القاعدة لا تطبق عندنا والدليل أن دور النشر العربية تزود المكتبات بأتفه الكتب وأضعفها وهي تعتقد أن ظاهرة نشر أي كتاب مهما كان، ظاهرة مطمئنة وفيها الكثير من الفائدة.
القضية لا ترتبط بمبدأ العرض والطلب في سوق الكتاب، فمن المؤكد أن الإقبال على الكتاب حتى لو كان “أي كلام” يشجع دور النشر على نشره، ولكن الصيغة التي أعنيها هي ابتعاد الكثير من دور النشر العربية عن مخازن تراثنا وحضارتنا وأدبنا العربي العظيم، وأخذت تنشر ألوانا من الكتب وكأنما تنشر ألوانا من الطعام، حتى طريقة عرض كتب العظماء من الأدباء والمفكرين العرب المتوفرة في المكتبات ودور النشر التي تشارك في معارض الكتاب، لا تكون بصورة صحيحة وفي مكان يلفت نظر الزائر أو القارئ، وأثار فضولي هذا التصرف عندما شاهدت دار نشر عربية في معرض للكتاب تقدم كتب “الطبخ والمسابقات وروايات الجيب الرخيصة للمراهقين” على كتب وروايات إبراهيم نصر الله في تناقض ما بين العين واليد، وعرفت أن الجزء الأهم هو حرارة المادة.
قد يخرج أحد بفتوى أن القارئ العربي متنوع الأمزجة، ومتنوع المستويات الثقافية ولذلك تحدد دور النشر الاتجاهات وفقا لأفضليات رواج كتبها، ولكنني أقول وبالتقييم السليم إن هذه المفاهيم الرثة التي تتبعها دور النشر العربية أهم مأساة من مآسي الأمة العربية.