لم ينجح الجمع بين العمل السياسي والديني إلا في حالات فريدة في التاريخ وذلك مع الأنبياء والمرسلين “عليهم السلام” الذين جمعوا بين البعثة الدينية والقيادة السياسية، ولم يكونوا يتصرفون بمفردهم ولا برأيهم، بل كانوا يتلقون الأمر من الوحي الإلهي. وهُم يختلفون عن الإنسان العادي الذي يتصرف بعقله ويحكم برأيه ولا يتفق مع رأي غيره إلا قليلا. وعلى هذا فإن الإنسان العادي في أي دين أو مذهب لا يستطيع أن يجمع بين العمل السياسي والديني، ولأسباب عديدة، ومَن يؤكد على عدم صحة هذا الرأي فإنه يعتقد بأن الجمع بينهما صحيح، ولا يمكنه التفريق بين المجالين، والعكس هو الصحيح، وهناك من الأسباب التي توضح أنه لا يمكن من الجمع بين العمل السياسي والديني، منها:
ليس هناك ما يُسمى بالإسلام السياسي، هناك دين إسلامي، وبالرغم من تعدد المذاهب الإسلامية سيبقى الإسلام معتقدا دينيا لا سياسيا. ومن اخترع تسييس الدين كان ذلك من أجل خدمة مصالحه الشخصية أو لتحقيق أهداف لأجندة معينة، ونشر هؤلاء رأي الإسلام السياسي لعجزهم عن ممارسة العمل السياسي بوسائل سياسية فقط. وأنهم اتخذوا من الجمع بينهما ليسهل عليهم التحايل على البسطاء من العامة، وتوظيفهم سياسيًا باستغلال العاطفة الدينية التي لديهم في تحقيق أجندة أصحاب سياسة الجمع.
بسبب سياسة الجمع بين العمل السياسي والديني انتشرت في العديد من المجتمعات ثقافة العنف والإرهاب باسم الدين، ولاقت هذه المجتمعات الكثير من الأمراض السياسية والاجتماعية والاقتصادية، من طائفية ودمار وفساد، وتفتت الوحدة الوطنية بين مواطنيها حتى وصلت إلى حالة الاحتراب الأهلي، وأمام أعيننا ما يحصل في العراق وسوريا واليمن وليبيا.
الجمع بينهما يُبعد الكثير من الآداب والفنون والمعارف عن نهج الإسلام، فبجانب العبادات الدينية هناك المعاملات وكذلك دائرة من الآداب والعلوم والفنون التي ارتبطت نشأتها واتفقت مع نهج الإسلام، والجمع بين العمل السياسي والديني قد يؤدي إلى التعصب في رفض الكثير من الآداب والعلوم والفنون في مبدأ التحليل والتحريم الكيفي لا الشرعي، كما فعل المتطرفون في تدمير آثار أفغانستان وسوريا.
إن أساس أية دولة هي المدنية لا الدينية، والدين موجه للأفراد لهدايتهم كونهم أنفسا إنسانية وليس إلى الدولة التي هي عبارة عن مؤسسات وإدارات ونظم وقوانين ومبان من حجر، كما أن الأفراد في أغلب الدول يدينون بأكثر من دين واحد. وأن الجمع بين العمل السياسي والديني يعني تسييس الدين وتقسيم المواطنين إلى مؤمنين (يؤمنون بالتسييس) وكفار (لا يؤمنون بالتسييس)، وقد يكون بعضهم من الديانات الأخرى في داخل الدولة الواحدة. الدولة المدنية وقوانينها وديمقراطيتها هي التي تفصل بين العمل السياسي كشأن عام والديني كشأن فردي خاص بين الإنسان وربه، لا وصاية فيه لأحد على الآخر. ولتعدد الديانات لا يمكن حُكم الناس جميعًا بواسطة أحكام الدين الواحد.
إن إلغاء الجمع بين العمل السياسي والديني في المجتمع يؤدي إلى العيش في أمن واستقرار، ويعيش المواطنون جميعًا في نعيم من الحرية السياسية والتعايش الديني المشترك بين جميع المواطنين الذين يقبلون التعايش مع الآخر في مناخ من التسامح الإنساني والمودة الوطنية والمحبة الدينية، فجميع الأديان مصدرها السماوي واحد، وإن اختلفت في تفاصيلها فهي ذات هدف عبادي واحد، وهو العبودية لله والتعايش مع الإنسان ومحبته. لذا، يجب استخدام كلٌ في اختصاصه وساحته، ولا يُستخدم الآخر لمصلحة أو ضد الآخر، وأن لا يُشكل استقطابًا بين موقفين، وتوظيفًا انتقائيًا على حساب الآخر من دون معرفة أو قراءة حقيقية للدين والفكر السياسي مما قد ينتج عنه تغليب أحدهم على الآخر. فكلٌ من الدين والسياسة يستخدم لتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة الإنسانية والمشاريع التنموية الوطنية متفرقين لا مجتمعين وبحسب اختصاصات كلٌ منهما ودوره وساحته.
ولكن علينا أن لا ننسى أبدًا في الحال التي وصلناها من التراجع السياسي وظهور تيارات تستخدم العنف والإرهاب باسم الدين، وهذه الحال كانت بسبب صراعات أقطارنا العربية التي وجهتها وحرضت عليها التدخلات الأجنبية ومناورات القوى الإقليمية والدولية مما أثار كثيرًا في تأجيج الصراع السياسي والديني بين مكونات أبناء البلاد الواحدة والأمة العربية، وأشعلت فتيل الصراع بين الديني والسياسي كونها إحدى أجنداتها للهيمنة على ما تبقى من ثرواتنا القومية ولتقسيم المجزأ منها، فهذه القوة المعادية للأمة العربية وشعبها العربي تصنع الشيء وضده في آنٍ معًا لهذا الطرف وذاك، فتحارب البعض وتساند الآخر، تعطي أحد الأطراف السلاح والمال وتمنعه عن الآخر، كل ذلك يكون باسم الإسلام وتحت ذريعة الحرية والديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان وباسم العولمة وصراع الحضارات، وفي النهاية نحن نخسر كثيرًا وهي تكسب أكثر وأكثر. يقينًا لا يصح الجمع بين العمل السياسي والديني ولن ينجح أبدًا، لأن ذلك لن ينفعنا ويُنافي الصواب، ولا يلتقي مع أهداف الدولة المدنية وتطلعات مواطنيها الكرام.