العدد 5645
الجمعة 29 مارس 2024
banner
انحطاط الذوق العام ومسؤولية المجتمع
الجمعة 29 مارس 2024


ذات يوم ردت علي صاحبة الثلاثين عاما.. "ولم لا.. هو في النهاية بشر"، وكنت أعلق على كيفية تبادل الملاعق على طاولة الطعام، بل كيف يأكل اثنان بملعقة واحدة دون اكتراث أو دون التزام بمعايير السلامة البدنية والصحة النفسية وبديهيات الذوق العام، اعترضت الفتاة بشدة على انتقادي هذا المظهر المخل، وهذا السلوك الذي لم نألفه من قبل. تركت الفتاة التي من المفترض أنها مثقفة ومتعلمة وتعمل في مجال من مجالات المحافظة على الذوق العام كونها تعمل في مهنة القلم، انصرفت عن الفتاة وأنا حزين، ضاربا أخماسا في أسداس، يا ترى.. يا هل ترى.. ألهذا الحد تغيرت الحياة، تبدلت المعايير والمقاييس، وما تعلمناه في المهد بأن النظافة من الإيمان، لم تعد من الإيمان، وأن القبح صار معيارا من معايير الجمال، وليس معيارا من معايير الانحطاط الأخلاقي وانخفاض الذوق العام؟ ألهذه الدرجة تغير المجتمع وأصبح الضحك الهستيري على نكتة "بايخة" دليلا على فهم ما لا يفهم، وعلى أن المعنى في بطن الشاعر؟ هل نحن الذين مر علينا زمان "النظافة من الإيمان"، ولم يمر على الأجيال اللاحقة؟ هل.. وهل.. وهل، وأسئلة أخرى كثيرة حاصرتني، وخيبة أمل أعمق أعمتني، وضياع أمل محقق داهم قناعاتي البسيطة المتواضعة.
ظلت الأسئلة معلقة في مخيلتي حتى وقعت عيناي صباحا على مقال لسيدة من سيدات أدوات التواصل الاجتماعي تحتج فيه بشدة على إعلامي مشهور جدا ويتقاضى الملايين من القناة التلفزيونية التي يعمل فيها ويصفه جمهور هذه الأيام بالرجل ذي الدم الخفيف، والحضور الطاغي، فإذا بالسيدة تهاجمه بشدة وتتحدث عن المعايير المجتمعية المقلوبة، وكيف يصبح الرجل عديم الحضور واللباقة والثقافة والكياسة والشياكة من أصحاب الأعلى نسبة مشاهدة، والأعلى أجرا، والأكثر شعبية بين الإعلاميين العرب؟
السؤال وجيه ولولا أنه جاء في وقته لكنت اعتقدت أنني من أهل الكهف الذين ناموا قرونا من الزمان ثم استيقظوا على عالم آخر، وعملات أخرى ومعايير إنسانية أخرى، لقد أنقذتني هذه السيدة المحترمة من غدر الزمان ومن عقارب الساعة المقلوبة، بل ومن المعايير الأخلاقية والقيمية المغلوطة، لقد أثبتت أن الجمال جمال ولو اختلت معاييره، وأن القبح هو القبح ولو ثقلت موازينه، وأن الشمس هي الشمس ولو مرت فوقها سحابة صيف عابرة. يقولون إن شمعة وحيدة تستطيع هزيمة كل ظلام الكون، فلماذا لا نكون أنا وأنت، أنا أو نحن، أنا أو هم أو هن.. هذه الشمعة الوحيدة وتلك الفرصة الفريدة لكي نستعيد أنفسنا، المياه إلى مجاريها ولو كانت مؤقتا غير صالحة للشرب؟ لماذا لا نبدأ من السيدة التي تخالف أدبيات الصحة العامة ولم تراع الذوق العام وهي تأمل بملعقة واحدة مع صديقها إياه، ولماذا لا نبدأ بأنفسنا ونكافح ذلك الإعلامي الذي يصرخ طول الوقت في وجه المشاهدين ثم يهاجمهم قائلا: "اللي مش عاجبه يغير المحطة".

كاتب بحريني والمستشار الإعلامي للجامعة الأهلية
 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية