تقوم الدول – وهذه حقيقة علمية – أساسا على تحقيق ثلاث وظائف أساسية وهي الأمن الخارجي (جيش) والأمن الداخلي (شرطة) وتحقيق العدالة (قضاء) وهي ما يطلق عليها بالوظائف التقليدية للدولة، فضمان الأمن المجتمعي واستقرار الحقوق وكفالتها ركيزة أولية لنشوء واستقرار الدول.
منذ عدة سنوات جرى العمل الدؤوب على تطوير مرفق القضاء والجهات التي تتولى فض المنازعات بالطرق البديلة كالتحكيم والوساطة والتوفيق، وهي جهود نرفع القبعة فيها لمعالي نائب رئيس المجلس الأعلى للقضاء رئيس محكمة التمييز ولمعالي وزير العدل والشؤون الاسلامية والأوقاف ولسعادة النائب العام، كما وان وزارة الداخلية طورت من دورها وانتقلت من فكرة أمن المجتمع والأمن الوطني الى فكرة الأمن الإنساني، وهذا التطور مشار إليه بشكل تفصيلي في أطروحتي للماجستير عام 2014 بعنوان (الرقابة البرلمانية على موازنة الأمن في ضوء قواعد الشفافية).
ولكن حديثنا حقيقة يتمحور حول آلية مهمة وترتبط بفكرة العدل والعدالة في معناها الواسع، نحن في غيبوبة منعتنا عن التمعن فيها وتطويرها وضمان فاعليتها، وهنا أدعو للتركيز على (وضمان فاعليتها)، فالإجراء قد يكون موجودا ومرسوما، جميلا متأنقاً، في متن النص القانوني، ولكنه في الحقيقة غير فعال لأنه مثلا يطبق في إطار تمييزي، اي انه متروك للاستخدام، بحيث يستخدم الإجراء ضد فلان لردعه وتأديبه كونه قليل الأدب عديم التربية ويتم التغاضي عن فلان لأنه ولأنه ولأنه، وهذا ما نسميه استخدام القانون وليس تطبيق القانون، وهو عيب بالمعنى العامي والاصطلاحي واللغوي في الدولة القانونية.
ما نلحظه ان سياسات ونظم وتطبيقات الحق في التظلم وتحديدا في كثير من الجهات الحكومية من وزارات ومؤسسات وهيئات عامة بل وحتى في القطاع الخاص ضعيفة، تحتاج لسيلان وتغذية صحية وبروتينات ويمكن Personal Trainer لتقوى وتتحسن وتحقق الهدف المنشود.
يجب ان لا يغيب عنا ان التظلم الاداري اجراء أولي ومهم بعده يلجأ للقضاء، وهذا امر يحتاج التدقيق فيه حيث انه ان نجح هذا الإجراء وتحصل المتظلم على حقه القانوني دون تعسف من البداية نكون تلقائيا خففنا على الجهاز القضائي كما كبيرا من القضايا التي يمكن ان تحل في داخل الجهة الحكومية، والرابط ما بين التظلم والطعن القضائي وثيق فكلاهما يستهدفان تحصيل الحقوق وتحقيق الاستقرار، ويكون ذلك لولا الأمثلة العامة التالية التي سأضربها، وفقنا الله وإياكم:
المثال الاول: نجد الرئيس الاداري الأعلى وزيرا كان أم من الدرجات العليا يشكل لجان التظلم من فريقه المقرب، وذلك بسبب اعتقاد خاطئ لديه ان من يشتكي من الموظفين يعني ذلك طعنا شخصيا فيه وفي أدائه وجودة ادارته وكمال إنصافه وجميل عدله البشري، وبالتالي وجب ان يرد هذا المارق المتجاوز (اي الموظف) وان يعرف قدره، وبالتالي قد لا ينظر في تظلمه او تتم المماطلة والتأجيل، وقد تقرر اللجنة في بعض الأحيان بعدم أحقيته فيما تظلم بشأنه، وهو صاحب حق لمن نظر نظرة منصفة، كل ذلك تحقيقا لرغبة المسؤول النرجسي من جانب ولضمان اعضاء اللجنة الحصول على الحظوة عنده من جانب آخر، المصلحة متقابلة ومتبادلة ضد الصالح العام، فنفعل ما تأمرنا ولك السمع والطاعة في الحق والضلال، وسر ونحن من خلفك.
المثال الثاني: الرغبة في بعض الأحيان في تعكير صفو حياة الموظف ليس إلا: وذلك بإطالة إجراءات التظلم وتشكيل لجنة داخل لجنة، ناهيك عن اقحام الموظف في لجان تحقيق من باب التخويف والتهديد، وبالاتفاق المبطن على الإضرار، وفي الأخير يقال للموظف المتظلم: (روح اشتك في المحكمة)، وذلك ليس لشيء سوى لتعكير حياته بحيث يعين محاميا ويصرف أموالا وينتظر إجراءات التقاضي التي قد تطول –والعدالة البطيئة ظلم- وهو في ألم الانتظار للحصول على حقه، ويكون السبب الأساسي لكل ذلك هو ان المسؤول الاداري يرى بأنه حتى وفي حال صدور حكم من المحكمة في صالح المتظلم فإن الأمر بات بين الجهة الإدارية والموظف المتظلم وهو –اي المسؤول او عضو لجنة التظلمات او اللجنة كلها– رغم تعنته وظلمه لن يمسه شيء كونه مارس دوره في ان يكون جزءا من لجنة (كابوس) تشكلت وفق اللائحة التي منحتهم صلاحيات واسعة، ولكنها –اي اللجنة- في الباطن تستهدف تعكير صفو حياة الموظف والتضييق عليه، ومن يعلم البواطن الا رب العالمين، والقانون يحاسب ظاهر الأمور، والمسؤول يحتمي تحت عباءة المنصب الرسمي، وأي تعويض قد يتقرر قضائيا هو من ميزانية الدولة وليس من جيب المتفقين على الأضرار.
المثال الثالث: هنا أتصور حالة تخيلية من الأفلام، قد تكون عندنا وقد لا تكون، وهي ما اسميها (عصابات الوظيفة العامة) في داخل الجهاز الحكومي، وهي عبارة عن تجمع من موظفين بدرجات وظيفية مختلفة وفي عدة مراكز داخل الجهة الحكومية الواحدة او في عدة جهات حكومية، نعم قد يكونون في عدة جهات حكومية (تمدد أفقي واسع)، يربطهم هدف مشترك وهو استغلال المرفق او المرافق الحكومية لتكون طوع بنانهم، تنظيم يحكمه دستور شفوي ضمني داخل الجهاز الحكومي، كل منهم في مكانه يقدم خدمات للآخر، ويعرقل اعمال من لا ينتمي لهذه (العصابة)، ولاءهم الوظيفي لتنظيمهم التعيس لا للدولة. وهذا النوع من التنسيق الجهنمي قد يكون دافعه انهم من نفس الجمعية السياسية او من طائفة معينة او من فكر اقتصادي معين، اي رابط والروابط لا تنتهي، او انهم وجدوا ان تشكيل هذا التنظيم الواقعي امر واجب للدفاع عن مصالحهم في الحق والباطل، في السراء طبعا وليس في الضراء لانهم يتفرقون حينها لأن روابطهم مصلحي هش، ويكون شعارهم الابليسي ما قاله قاصدا فيه الخير المهلب بن ابي صفرة:
كونوا جميعا يا بني اذا اعترى
خطب ولا تتفرقوا آحادا
تأبى الرماح اذا اجتمعن تكسرا
وإذا افترقن تكسرت أفرادا
شعارهم بليغ ومقنع –بالنسبة لهم- ولكن نواياهم وأفعالهم دنيئة، كالحرامي الذي يسرق مقنعا نفسه انه روبن هود فيسرق مليونا ويعطي فقيرا مر بجانبه دينارا، اقنع نفسه هذا المغفل انه تصدق وبالتالي هو صاحب هدف نبيل.
مثل هذه التنظيمات الواقعية من الصعب كشفها ولكنها بلاشك تتسبب في دمار الوظيفة الحكومية وخلق بيئة عمل غير صحية، كما انها ان ترسخت وتشعبت وطال أمدها في داخل جهة حكومية ستتعب كل وزير يتولى هذه الجهة لا يتماشى مع مصالح هذه المجموعة (الحرس القديم).
هذه في الحقيقة أمثلة نتخيلها وقد تصدق في الواقع، فإن صدقت فأنا أبرئ ذمتي كما تفعل الأفلام والمسلسلات وأقول: ان هذا المقال من نسج خيال الكاتب وان وجدت شخصيات في الواقع ينطبق عليها فأنا غير مسؤول، إنما طرحت مثالا ليتضح المقال، كما انها ليست حالات حصرية فهنالك من الممارسات الوظيفية الشاذة غيرها بلا شك، بل وقد تكون هذه الأمثلة التي ذكرتها غير موجودة في كل او بعض الجهات الحكومية عندنا، ولكنها من الأمثلة الموجودة في العالم ويجب تجنب وصولها لبلادنا، والله على ما أقول شهيد.
ان الحق في التظلم من حقوق الانسان، وبالتالي وجب ان يحظى بالحماية الفاعلة المؤثرة بتطوير إجراءاته وضمان فاعليتها. أعيد (وضمان فاعليتها)، خصوصا انه اهم اجراء اداري يقي الدولة من ويلات ظهور او تنامي الفساد الاداري، لذلك فإنني اهيب بعدة جهات ان تعمل بشكل حقيقي ناحية تطوير آليات التظلم وفاعليته كديوان الخدمة المدنية بأن يفعل بشكل كبير دور إدارة الرقابة الإدارية، ومعهد الادارة العامة عليه دور تثقيفي كبير، وكل وزير في وزارته، وكل مسؤول في المكان الذي ولي فيه امر الناس، وكذلك ديوان الرقابة المالية والإدارية، فلتضاعف هذه الجهات جهدها لتحقيق فعالية التظلم.
ان من الأفكار الناجحة – لكي لا يقال انني اطرح المشكلة ولا اعطي حلا - ان يكون هنالك خط اتصال للنزاهة (Integrity Line) او مكتب مركزي لجميع الجهات الحكومية يتبع ديوان رئيس الوزراء او مكتب النائب الاول لرئيس الوزراء او أية جهة عليا – فمكافحة الفساد الاداري عمل يجب ان يكون تابعا لأعلى المستويات - بحيث يكون هذا الخط للتواصل آمنا للمبلغين وفي إطار سرية مثل تلك التي نراها في الأفلام من ال FBI، يقدم عن طريقه المبلغين (الموظفين والعاملين) شكاوى عن حالات الفساد الاداري وعدم النزاهة في الجهات الحكومية المختلفة وفي الشركات الحكومية التي تملك فيها الحكومة حق الادارة كونها تملك غالبية رأس مالها، ثم يقوم هذا المكتب بدراسة الحالات واتخاذ القرار المناسب.
لو صدر قرار قوي رادع على احد الفاسدين اداريا ليكونن رادعا للجميع، وايضاً يتولى هذا المكتب تقديم تقارير لسمو رئيس الوزراء ولسمو النائب الاول لرئيس الوزراء عن مواطن الخلل في الجهاز الحكومي في اختصاصات محددة في قرار إنشاء المكتب، وهذه الاختصاصات تتضمن النظر وتقييم بيئة العمل وتركيبة الإدارات من حيث الطوائف وتكافؤ الفرص بين الجنسين بل ابعد من ذلك التركيبة من حيث صلات النسب والقربى والاصول لضمان عدم وقوع تمييز على الغير مبني على هذه الأسباب، والبحرين دولة صغيرة في المساحة وعدد السكان، ويمكن عمل ذلك متى ما تلمسنا خطورة المشكلة وتظافرت الجهود، وايضا يتضمن عمل المكتب بيان مكامن الفساد الاداري وتقييم جودة الادارة.
قد يكون قلمي ساقني لأفكار قد يراها البعض بعيدة او لا وجود لها، ولكن هذا ما رأيته عندما زرت في عام 2016 جهاز المساءلة والمحاسبة في واشنطن بالولايات المتحدة الامريكية، وتجربتهم ثرية جدا بسبب الرئيس السابق الغزال الأسمر باراك اوباما الذي كان جل عمله لتحقيق ما اسماه Open Government بحيث يكون أساس عمل الحكومة – فلنركز أساس العمل - هو مكافحة الفساد والشفافية، فكل شيء من نمو اقتصادي وزيادة دخل قومي ومعالجة التضخم والبطالة والتمثيل النيابي الصحيح وغيرها من كبريات المشاكل والأمور تكون محلولة تلقائيا عندما تشتد وتيرة مكافحة الفساد بأنواعه.
كذلك من المهم – وهذا خطاب للسلطة التشريعية - ان يتم اعتبار بعض حالات الفساد الاداري، اشدد (الاداري)، فالمالي خالصين منه بالعامي، من قبيل الجرائم الجنائية، بل وبعضها وجب ان يتقرر عقاب مالي (غرامة ثقيلة) على الموظف صاحب الصلاحية المتعسف الذي مارس هذا الفساد، يدفع من ماله الشخصي ليتألم - ويخلي عنده شوية دم - ويرتدع، فأكثر ما يؤلم الناس في هذا الزمان مساس جيوبهم، فقد يحبس وتقيد حريته فيخرج مناضلا من حيث لا تدري الدولة، لذلك العقاب وجب ان يكون ماليا يضاف للجنائي، وهذا بالمناسبة ما قرره المشرع اللبناني في بعض ما نعتبره عندنا مخالفات ادارية بأن سماها جرائم ادارية.
ان تفعيل آليات المساءلة والمحاسبة والعقاب الرادع في الجهاز الحكومي وتجويد سبل التظلم وتحسينها دوريا بشكل مستمر لضمان فاعليتها وتحديدا في مجال مكافحة الفساد الاداري من اهم متطلبات اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد ومن اهم مظاهر الحكم الصالح الرشيد، بل وببسيط العبارة من اسهل الطرق لتحقيق الطمأنينة والراحة في أماكن العمل مما ينعكس على الراحة والطمأنينة في داخل الأسرة ثم تلقائيا في المجتمع، حيث قال الدستور وقوله حقيقة في المادة (5): (الاسرة أساس المجتمع)، كما وقال في المادة (1): (نظام الحكم في مملكة البحرين ديمقراطي)، وقال ايضا في المادة (4): العدل أساس الحكم.
هذا الموضوع من مدونات القراء |
---|
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected] |