"ثمّة ما هو أدهى من الظلم، أن يُمارس باسم العدالة.. وما هو أفظع من الاستبداد، أن يُمارس بأيدي من ادّعوا يومًا أنهم ثاروا عليه."
لطالما أثّر فيني المشهد الختامي في رواية مزرعة الحيوان لجورج أورويل حين تتداخل وجوه الخنازير بوجوه البشر، حتى يعجز الناظر عن التفرقة بينهما، لم يكن هذا الالتباس بسبب عيون مرهقة أو إنارة خافتة، بل نتيجة خيانة عميقة قلبت القيم رأساً على عقب.
كيف يتحوّل حالم بالحرية إلى طاغية؟ وكيف يغدو رفيق المظلومين أشرس من ظلمهم؟
في واقعنا العربي، لسنا بحاجة إلى كثير من التأمل لنُدرك أن "نابليون " و" سنوبول" لم يكونا مجرد رمزين أدبيين، بل نماذج بشرية تمشي بيننا، يرتدون البذلات الباهظة، يعتلون المنصات، ويتغنون بالعدالة وحقوق الإنسان. لكن ما إن يصل أحدهم إلى مبتغاه، حتى يتحوّل من ناقد إلى منفذ، ومن صوتٍ للحق إلى يدٍ توقّع على القمع.
كم من أشخاص بدؤوا مسيرتهم كنماذج للنزاهة يكتبون ويتحدثون بشغف، يذرفون الدموع من أجل قضية نبيلة، يرفعون راية المظلومين ثم ما إن تُعرض عليهم وظيفة أو ترقية، حتى يخلعون جلودهم كما تفعل الأفعى!
لكن الفارق كبير،فالأفعى تفعل ذلك بفطرتها، أما هم، فبدافع الطمع والمصلحة الأنانية.
خيانة القضية ليست مجرد هفوة أخلاقية، بل جريمة مكتملة الأركان، تبدأ منذ اللحظة التي يبدأ فيها "المدافع السابق" بتبرير تحوّله: بالقول ان "الواقعية تفرض علي أن أكون عمليًا.. وان ….."
رواية أورويل لم تكن مجرد تهكم أدبي، بل مرآة تعكس كل من باعوا أحلام الآخرين بثمن لقب، ومن استبدلوا المبادئ اللامعة بسياسات باهتة، ومن ساوموا على كل شيء من أجل فتح باب يقود إلى مصالحهم الخاصة.
نحن لا نطالب بالكمال، ولا نؤمن بوجود ملائكة في عالم تحكمه الواقعية، لكننا نؤمن بأن من رفع راية قضية، عليه على الأقل ألا يدوسها حين يصل إلى غايته.
أن يحمل في داخله بقايا من إيمان، وذرة من كرامة، وألا يُشبع بطنه بثمن خنق صوته.
القضية لا تُباع، وإن باعها البعض، والكرامة ليست سلعة تُساوَم عليها، وإن حاول الطامحون المساومة.
ومن يظن أن مزرعة الحيوان مجرّد قصة عن الخنازير، لم يفهم شيئًا عن عالم البشر!