العدد 6058
الجمعة 16 مايو 2025
banner
انخفاض أسعار النفط واقتصادات المنطقة
الجمعة 16 مايو 2025

لا شك أن دول مجلس التعاون من أكثر الدول تأثرا بتقلبات أسواق النفط. ويرجع هذا الوضع، كما نعلم، إلى كون اقتصادات المنطقة بالرغم من التنوع في مصادر دخلها الذي أنجزته بالفترة الماضية، ما زالت تعتمد اعتمادا رئيسا على الإيرادات النفطية في تمويل معظم، إن لم يكن جميع، قطاعاتها الاقتصادية والاجتماعية، وغيرها من المرافق الأخرى. لذلك نجد أن تقلبات أسواق النفط هبوطا وصعودا تنعكس مباشرة على أوضاع المنطقة. ففي حالة ارتفاع أسعار النفط، نجد أن ذلك يعمل على انتعاش الأنشطة الاقتصادية المختلفة من مشروعات وأنشطة مصرفية وعقارية وحتى الاجتماعية، إضافة إلى قطاع التجارة والبورصات والأسواق المالية، وعلى العكس من ذلك، عندما تنخفض أسعار النفط يخيم التباطؤ إن لم يكن الركود على مختلف الأنشطة لدول المنطقة.

ومثل هذه التقلبات في أسعار النفط تخضع في الأساس إلى ما يعرف في علم الاقتصاد بالدورات الاقتصادية، لكن تتدخل أيضا في هذه التقلبات عوامل عديدة أخرى لا تقتصر فقط على الجوانب الاقتصادية، ولكن تتأثر بالقرارات والأوضاع السياسية أيضا. وبالنسبة إلى الوضع الحالي الذي تمر فيه أسواق النفط، فإن الانخفاض الذي نشهده يرجع حسبما يبدو إلى مزيج من هذه العوامل الاقتصادية والسياسية معا. فمن ناحية، فإن حرب الرسوم الجمركية التي أشعلها الرئيس الأميركي أدت إلى حالة من التخوف بأن يؤدي ذلك إلى نوع من الركود على صعيد الاقتصاد العالمي، ومثل هذه الأجواء تنعكس في شكل انخفاض الطلب على النفط، الأمر الذي يؤدي إلى تراجع أسعاره.

كذلك فإن هذا الأمر تزامن حديثا مع قرار منظمة الدول المصدرة للبترول زيادة الإنتاج؛ حفاظا على حصتها من أسواق النفط، وبالطبع فإن زيادة إنتاج النفط، في الوقت الذي يسود العالم التخوف من الركود وانخفاض الطلب على النفط، من شأنه أن يزيد المعروض من النفط ويضع مزيدا من الضغوط على أسعاره. وإضافة إلى كل هذه العوامل الاقتصادية، هناك أيضا عوامل سياسية تعمل في هذا الاتجاه، إذ إن المفاوضات السياسية الحالية بين أميركا وإيران بشأن البرنامج النووي، أعطت الشعور والانطباع بأن إيران ونتيجة لهذه المفاوضات، قد يتم رفع العقوبات عنها ويسمح لها بتصدير النفط، وفي مثل هذه الحالة فإننا قد نشهد مزيدا من النفط المعروض في الأسواق، في الوقت الذي يعاني فيه الطلب على النفط من ضعف؛ بسبب احتمال اتجاه الاقتصاد العالمي إلى حالة من الركود.

لذلك يبدو أننا نمر حاليا بفترة اجتمعت فيها عوامل اقتصادية وسياسية تضغط في اتجاه انخفاض أسعار النفط، وبالطبع فإن هذه الظروف تؤثر على صناعة وإنتاج النفط من ناحية، كما تؤثر على الأوضاع الاقتصادية للدول المنتجة للنفط من ناحية أخرى. وعلى صعيد صناعة وإنتاج النفط، فإن انخفاض أسعار النفط إلى ما دون مستويات معينة قد لا يجعل إنتاج النفط في بعض مناطق العالم مجديا اقتصاديا، وبالتالي قد تضطر مثل هذه المناطق إلى التوقف عن الإنتاج. فعلى سبيل المثال، فإن بعض مناطق إنتاج النفط الصخري في أميركا قد لا تتمكن من الاستمرار في الإنتاج إذا قل سعر النفط عن 60 دولارا للبرميل. هذا الأمر لا ينطبق بالضرورة على دول نفطية أخرى كدول المنطقة، حيث إن تكلفة الإنتاج فيها تقل كثيرا عن هذا المعدل.

وبالتالي فإنه حتى في حالة انخفاض سعر النفط عن 60 دولارا، فإن دول المنطقة يمكنها الاستمرار في الإنتاج وبشكل مجد اقتصاديا. لكن دول المنطقة مع ذلك قد تواجه بنوع آخر من المشكلات، حتى في حالة بقاء سعر النفط في حدود 60 دولارا للبرميل، وأهم هذه المشكلات التي يمكن أن تواجهها دول المنطقة في هذه الحالة، هو أن بعض هذه الدول إن لم يكن جميعها، قد لا تتمكن من تحقيق توازن مرغوب في ميزانياتها، حيث إن هذه الدول قد توسعت بالسنوات الماضية في الإنفاق، سواء على مستوى المصروفات الاستثمارية أو المصروفات الجارية، وكثير من هذا الإنفاق أصبح من الصعب خفضه أو المساس به حتى وإن انخفضت الإيرادات النفطية دون المستوى المطلوب.

وفي مثل هذه الحالات، كما نعلم، تتجه الأنظار إلى إما خفض مخصصات المشروعات، الأمر الذي يؤثر سلبا على مستوى النمو الاقتصادي، أو إلى الاقتراض، ما يزيد في مديونية الدولة ويؤثر على درجة تقييمها الائتماني، أو اللجوء إلى الأخذ بكلا الخيارين في آن واحد وبدرجات متباينة. وتحاول الدول تجنب اللجوء إلى أي من هذين الخيارين قدر الإمكان، فمن ناحية تحتاج هذه الدول إلى تحقيق معدلات نمو مرتفعة إلى حد ما، ومن ناحية أخرى ومن دون شك، تحاول تجنب دخول ميزانياتها في عجز وتراكم الديون، وبالتالي تفادي انخفاض تقييماتها الائتمانية، الذي يؤدي بدوره إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض وبالتالي زيادة الأعباء المالية.

لا أحد يعلم حتى الآن إلى أين تتجه أسعار النفط، وإن كانت التوقعات متشائمة على الأقل بالنسبة لهذا العام وربما العام المقبل أيضا. لكن من المؤكد أن أسواق النفط ستظل خاضعة لأكثر من عامل، بعضها اقتصادي والبعض الآخر ذو طبيعة سياسية. وغالبية هذه العوامل تبدو خارجة عن سيطرة الدول المنتجة للنفط. وكل ما يمكن عمله في مثل هذه الظروف هو التحوط لأسوأ الاحتمالات، وأخذ التدابير اللازمة للحفاظ على المكتسبات السابقة، وتجنب عدم تدهور الأوضاع إلى الأسوأ عبر أنواع مختارة من الترشيد الذي لا يمس الإنفاق الاجتماعي، كما لا يكون على حساب مشروعات التنمية. وفي هذه الأثناء يظل الأمل قائما على أن تكون الظروف الحالية لأسواق النفط مجرد ظروف مؤقتة تنفرج بعدها الأوضاع نحو مستوى أفضل لأسعار النفط، يحقق لدول المنطقة استمرار الرخاء والازدهار.


* الرئيس السابق لصندوق النقد العربي

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .