يستند الرئيس الأمريكي في حرب الرسوم الجمركية على فرضية أن العجز التجاري الذي تعاني منه أمريكا يرجع، كما يعتقد، إلى أن تجارة العالم مع أمريكا هي غير عادلة، وأن النظام التجاري العالمي غير منصف في حقها. لذلك، بدأ في حربه التجارية برفع الرسوم الجمركية على دول العالم بدرجات مختلفة، وفقًا لحجم العجز التجاري مع هذه الدول.
ولا يبدو أن الرئيس الأمريكي، أو حتى مستشاريه، قد بذلوا جهدًا كافيًا لمعرفة كيف تحولت أمريكا من دولة فائض إلى دولة عجز، حيث كانت تحقق، وباستمرار، فوائض مالية وتجارية منذ الحرب العالمية الثانية وحتى بداية السبعينيات، عندما تحولت ومنذ ذلك الوقت من حالة الفوائض إلى حالة من العجوزات.
والعجز التجاري هو أحد أعراض مشاكل الاقتصاد الأمريكي، حيث تعاني أمريكا أيضًا من عجز كبير في الميزانية يزيد عن 7% من الناتج المحلي الإجمالي، كما تعاني كذلك من مديونية قياسية تصل إلى 122% من ناتجها المحلي الإجمالي. لذلك، فإن المشكلة الاقتصادية الأمريكية لا تنحصر في عجزها التجاري فقط، بل إن المسألة أكبر من ذلك. وبالتالي، فإن التركيز على رفع الرسوم الجمركية لا يبدو أنه الحل، حيث إن العجز التجاري ما هو إلا أحد أعراض مشكلة الاقتصاد الأمريكي، ولا يمثل المشكلة في حد ذاتها.
إن مشكلة الاقتصاد الأمريكي ترجع في الأساس إلى أن أمريكا فقدت تدريجيًا، خلال الخمسين سنة الماضية، القدرات التصنيعية والإنتاجية التي تفوقت فيها خلال تلك الفترة. ولقد تحول الاقتصاد الأمريكي من اقتصاد إنتاجي صناعي إلى اقتصاد استهلاكي واقتصاد خدمات، حيث يشكل قطاع الخدمات اليوم أكثر من 75% من الناتج المحلي الإجمالي. وبالتالي، أصبحت أمريكا تستهلك أكثر مما تنتج، وتعتمد وفقًا لذلك على ما ينتجه الآخرون. وتقوم أمريكا بتغطية العجز عن طريق الاقتراض، الأمر الذي أدى، مع مرور الزمن، إلى تراكم مديونية أمريكا بشكل لا يبدو أنه قابل للاستدامة.
لذلك، وبدلًا من الدخول في عداوات مع دول العالم من خلال فرض رسوم جمركية على واردات أمريكا من هذه الدول، كان من الأجدى الالتفات إلى المشاكل الداخلية للاقتصاد الأمريكي ومحاولة إجراء الإصلاحات الضرورية، والتي هي - كما يبدو - مشاكل داخلية أكثر منها نتيجة للتعامل التجاري مع دول العالم.
وفقًا لذلك، ينبغي العمل على سد الفجوة، أو على الأقل تضييقها تدريجيًا، بين ما تستهلكه أمريكا وبين ما تنتجه، وذلك من خلال تطوير القطاعات الصناعية والإنتاجية، خاصة تلك التي تملك فيها أمريكا مزايا نسبية، مع الأخذ في الاعتبار طبيعة واحتياجات أسواق التصدير. ومثل هذا التوجه ينبغي تعزيزه من خلال تطوير قطاع التصدير، الذي يحتاج - كما يبدو - إلى تحديث هام في البنية التحتية، مثل الموانئ والمرافق الأخرى.
أمريكا تحتاج أيضًا إلى تطوير ثقافة الادخار، وذلك لتجنب قدر الإمكان الاستمرار في الاعتماد على الاقتراض - وإن كان ميسّرًا وسهلًا - حتى لا يصبح، مع الوقت، نوعًا من الإدمان الذي يصعب التخلص منه.
وبالتأكيد، تحتاج أمريكا إلى إصلاحات جادة على صعيد الميزانية، وضرورة خفض العجز الكبير من خلال تقليص حجم الاقتراض الحكومي، الذي من شأنه تخفيف الحاجة إلى تدفق رؤوس الأموال إلى أمريكا، وبالتالي تقليص العجز التجاري.
لا بد كذلك من الإشارة في هذا السياق إلى دور قوة الدولار في حالة العجز التجاري الذي تعاني منه أمريكا، حيث إن قوة الدولار تجعل المنتجات الأمريكية غالية الثمن، ولا تتمتع وفقًا لذلك بتنافسية عالية في الأسواق العالمية. لكن، وكما نعلم، فإن المساس بالدولار عملية شائكة، حيث إن أمريكا تستفيد كثيرًا من الوضع القوي للدولار، وإن أي إضعاف للعملة الأمريكية يكون ثمنه باهظًا، خاصة على صعيد ثقة العالم والمستثمرين في وضع العملة الأمريكية. والمقصود في هذا الشأن أنه، وبالرغم من أن أمريكا تستفيد من الوضع الحالي للدولار، إلا أن ذلك على حساب ضعف تنافسية الصادرات الأمريكية.
من الإصلاحات الأخرى التي قد يحتاج الاقتصاد الأمريكي إلى تبنيها، ما يتعلق بهيكل الضرائب، إضافة إلى الحاجة إلى إعادة النظر في طبيعة التدفقات المالية التي تأتي إلى أمريكا. فعلى صعيد الضرائب، يبدو أن أمريكا تختلف عن بقية دول العالم، حيث تفتقر إلى ما يُعرف بضرائب الاستهلاك، مثل ضريبة القيمة المضافة، التي تحد من كثرة الاستهلاك، وعلى العكس، تشجع على الادخار، وهذا يمكن أن يساعد على تقليص عجز الميزانية وكذلك العجز التجاري في آن واحد.
أما على صعيد التدفقات المالية القادمة إلى أمريكا، فالغالب منها يذهب لشراء السندات، بالإضافة إلى الاستثمارات المالية قصيرة الأجل، والقليل منها يذهب إلى الاستثمار في الصناعات والقطاعات الإنتاجية ذات الطابع طويل الأجل. التحدي الذي يواجه أمريكا في هذا المجال يتمثل في كيفية تشجيع مزيد من التدفقات المالية نحو الاستثمارات الإنتاجية طويلة الأجل، على حساب التدفقات السريعة التي قد لا تتصف بالاستقرار.
من كل ذلك، نتبيّن أن هناك خطأ في تشخيص مشاكل الاقتصاد الأمريكي، حيث إن التركيز على العجز التجاري، ومحاولة التعامل معه من خلال رفع الرسوم الجمركية، دون معالجة أساسيات الاقتصاد الأمريكي، لن يُجدي نفعًا بقدر ما يُضر الاقتصاد الأمريكي نفسه، ويعزله عن محيط المنافسة الصحية الضرورية للنجاح على مستوى الاقتصاد العالمي.
*الرئيس السابق لصندوق النقد العربي