عرف تاريخ أمتنا العربية مراحل من الانحطاط الحضاري، منها قصيرة الأجل وأُخرى طويلة، بيد أن مرحلتنا الحالية هي الأخطر، فمنذ فجر النهضة الثقافية العربية أواسط القرن التاسع عشر، لم يشهد تاريخ الأُمة هذا التراجع النهضوي المتزايد كما يشهده الآن، بل ما يثير الاستغراب والألم معا، أنه كلما تطورت الثورات التكنولوجية في الغرب بقفزات متلاحقة ازداد تخلفنا بقفزات أكبر إلى الخلف حضاريًّا، حتى بات الإنسان المثقف الواعي يتحسر على ما كانت عليه أوضاعنا العربية المأساوية - في سياق التخلف نفسه - قبل سنوات قليلة.
على أن أخطر ما في هذه الردة الثقافية هو استحضار التاريخ وتمثله وربطه بالمرويات الدينية، سواء الصحيح منها أو المشكوك في صحتها وهي الأكثر، فكأنما التاريخ المستحضر وقع بالأمس، لا تاريخًا مضى عليه ما ينوف على ألف وأربعمئة عام. وهكذا تجد كل فئة اجتماعية دينية تبذل “جهادًا” استثنائيًّا وتحارب بشدة في سبيل إثبات أن مروياتها الدينية التاريخية هي الأصح، فيما مرويات الفئة الاجتماعية الدينية الأخرى التي جعلتها خصمًا لها هي الخاطئة والمكذوبة شرعًا، ويحشّد كل طرف من المرويات والحوادث التي تدعم أحاجيج ما أنزل الله بها من سلطان لدغدغة عواطف جماهيره الدينية وحشدها ضد الفئة الأخرى، حتى باتت تتوارى القضايا المصيرية الوطنية والقومية إلى الخلف من حيث الأولويات. أكثر من ذلك، فقد تم توظيف ثمرة ما وصل إليه العقل الغربي من تقدم هائل في عالم الاتصالات لنشر الثقافة الظلامية في عالمنا العربي على أوسع نطاق وجعلها ميدانًا للحروب الإعلامية الدينية والفئوية، في حين لو كان الغرب مازال مستغرقًا في حروبه الدينية لما وصل إلى ما وصل إليه من تطور هائل ومذهل في التقدم التكنولوجي.
لقد بدأت معالم الردة الثقافية الحالية في أعقاب هزيمة 1967، ثم أخذت تتصاعد بمعدلات رهيبة في منتهى الخطورة منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، حتى بلغت ذروتها المخيفة في وقتنا الراهن.
والأسوأ من ذلك كله أن رسم خريطة الطريق للخروج من هذه الوهدة الحضارية يكاد يكون ضبابيًّا أو محيرًا من قِبل نخبتنا الفكرية العربية، جراء المعدلات المتسارعة للغاية لتلك الردة إلى الخلف.
كاتب بحريني