وفق كتاب “أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي” لكريم جمال المعزز بالمعلومات الموثقة، فقد شملت رحلات أم كلثوم الداخلية لإحياء حفلات غنائية مخصصة لدعم المجهود الحربي في أعقاب النكسة أربع محافظات رئيسة (دمنهور، إسكندرية، الدقهلية، الغربية)، هذا بخلاف الحفلات الشهرية والخيرية التي تقيمها، وقد جاءت بعائد يُقدر بمئات الآلاف من الجنيهات كما سبق أن ذكرنا، في وقت كان فيه الجنيه يُقدّر بدولارين، أما رحلاتها إلى الخارج فاشتملت على عاصمتي دولتين أوروبيتين عظيمتين، باريس 1967 وموسكو 1970، حيث جاءت زيارتها الأخيرة قبيل يومين أو ثلاثة من رحيل الرئيس جمال عبدالناصر، وقد تناولنا سابقًا تلكما الزيارتين بأبعادهما الفنية والسياسية، أما رحلاتها إلى الدول العربية فقد اشتملت على سبع دول في الفترة نفسها، أولها الخرطوم أواخر 1967، وآخرها دولة الإمارات العربية المتحدة 1971، عشية إعلان استقلالها، وقد عادت من زياراتها للدول العربية بحصيلة أضعاف مضاعفة من عوائد رحلاتها الداخلية وزيارتيها لفرنسا وموسكو.
وبالنظر إلى أن رحلات ثومة إلى الدول العربية تناولتها كثرة من المؤلفين والأقلام المصرية والعربية، فسنقتصر هنا على رحلتها إلى الخرطوم لما تنطوي عليه من دلالات ثقافية وفنية وسياسية مميزة في تقديرنا، فقد زارت ثومة السودان غداة أول قمة عربية بعد النكسة (أغسطس 1967) عُرفت بلاءاتها الثلاث حيال إسرائيل. ورغم ما يُعرف عن الشعب السوداني من تمسك شديد بتقاليده، إلا أنه كان حينئذ - ككل الشعوب العربية - منفتحًا على الفنون الموسيقية والغنائية. ولقد حظيت كوكب الشرق بحفاوة منقطعة النظير خلال هذه الرحلة التاريخية على مختلف الأصعدة الرسمية والشعبية، لم تتوقعها الست نفسها. وغداة وصول الست للخرطوم حرص الرئيس إسماعيل الأزهري على استقبالها قائلًا: “شرفت السودان يا ثومة”، كما قدم إليها هدية فريدة من نوعها، كذلك قدم أعضاء مجلس السيادة هدايا تذكارية، وفي كل جولاتها في البلاد كانت اللافتات الترحيبية تحيط بها في الشوارع والميادين، ناهيك عن اللوحات الفنية التي كان أشهرها لوحة كبيرة لها وخلفها جنود مصريون يقاتلون على الجبهة، وكان وزير الإعلام عبدالماجد أبو حسبو الذي وجه إليها الدعوة الرسمية باسم حكومة بلاده يحرص بنفسه على مرافقتها في أغلب جولاتها المعدة لها سلفاً، كما طبع قبلة على يدها لدى مغادرتها العاصمة السودانية.
ولشدة تأثرها بالحفاوة والتكريم الكبيرين اللذين أُحيطت بهما على الصعيدين الرسمي والشعبي طوال زيارتها الخرطوم، قررت أن تخص السودان بهدية مميزة، وذلك بأن تغني قصيدة لواحد من شعرائه، وقد أُرسلت إليها من السودان مجموعة من دواوين الشعراء السودانيين، كما كلفت الشاعر المصري صالح جودت بالبحث عن أية دواوين أخرى لشعراء سودانيين، فجمع سبعة دواوين (حسب صحيفة الصيحة، 20 يناير 2021) كان من بينها ديوان الشاعر السوداني الشاب الهادي آدم “كوخ الأشواق” وتوافق رأيهما - الست وجودت - على قصيدة “أغدًا لقاك”، وبسبب وفاة الرئيس جمال عبدالناصر المفاجئة عام 1970، فضلًا عن الظروف الصحية التي كانت تمر بها بعدئذ أم كلثوم، لم تستطع أن تغني هذه القصيدة إلا في مايو 1971، وكانت من ألحان محمد عبدالوهاب. وقد خضعت هذه القصيدة الغالية على قلب الشاعر - التي قيل إنه كتبها من حبر دمه لأن تحكي قصة حُب عاصفة مر بها أثناء حياته الجامعية في القاهرة أواخر الأربعينيات - إلى تعديلات كثيرة طلبتها الست والملحن، فما كان من الشاعر آدم الذي وجهت إليه دعوة لزيارة القاهرة لهذا الغرض إلا أن خضع لتلك التعديلات وأعاد نظمها وفقها في سبيل أن تغني له أم كلثوم القصيدة، وهي التي كان يعشق فنها عشقًا شديدًا. وبالفعل فقد اشتهر هذا الشاب بعد أن غنّت الست تلك الأغنية وصار اسمه مرتبطًا بها، رغم أن له دواوين عديدة تحتوي على قصائد يعتز بها جدًّا لم يلتفت لها إلا القلة من المثقفين والأدباء.
كاتب بحريني