العدد 6003
السبت 22 مارس 2025
المثقفون العرب والسلطة
السبت 22 مارس 2025

 ليس من قبيل المبالغة أن كتب تحت هذا العنوان المئات من كبار المثقفين والمفكرين العرب مقالات ودراسات ومؤلفات عديدة منذ عقود طويلة، وعُقدت الحلقات الدراسية حوله ونُظمت محاضرات عديدة، بيد أن إشكالية موقف المثقف العربي من السلطة وموقف الأخيرة منه، ما برحت الشغل الشاغل للطرفين. وقد اصطلح المثقفون العرب الذين يتبنون رسالة المُثل والمبادئ الوطنية والقومية والإنسانية، على اختلاف مشاربهم الفكرية، على نعت المثقف العربي “الملتزم” الذي يحيد ولو قيد أنملة عن “الخط الثوري” الذي عُرف به بـ “الانتهازي”، ويسري هذا الوصف عندهم على كبار المثقفين من سياسيين وأدباء وفنانين وعلى صغارهم على حد سواء. بداية لسنا هنا بصدد الدفاع عن الانتهازية بكل صورها، وعلى وجه الخصوص ذات النفعية الضيقة الصارخة والمتقلبة بين عشية وضحاها بزاوية 180 درجة من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، بلا حياء ودون وسطية أو تدرج. ولكن باعتقادنا ينبغي التفهم بوجود صنف من كبار المثقفين والأكاديميين الملتزمين الذين يعيشون في صراع نفسي داخلي للتوفيق بين مبادئهم الفكرية والسياسية السابقة من جهة وبين الالتزامات التي تفرضها عليهم المسؤوليات الحكومية والرسمية الجديدة في المواقع التي صعدوا إليها وعجزوا عن الزهد في إغراءاتها من جهة أخرى. وهذا الضرب من المثقفين الكبار، بمن فيهم البرلمانيون العرب، والذين لم يستطيعوا في دواخلهم التخلي عن مبادئهم، يبدو لي أنه آن الأوان لتقييمهم تقييمًا متوازنًا بما لهم وما عليهم، ومن الظلم بمكان مساواتهم تمامًا بالمثقف “الانتهازي” الذي لا يتردد إذا ما استلم أي منصب حكومي أو مسؤولية إعلامية أو ثقافية في مؤسسات الدولة العربية أو قريبة صحافيًّا منها عن الفجور في عدائه لمبادئه وأفكاره السابقة ورفاقه السابقين. 

 وقد شهدت الحياة الثقافية والسياسية العربية في معظم دولنا العربية، كبيرها وصغيرها، بدرجات متفاوتة نماذج عديدة من كبار المثقفين العرب الذين غيروا جلودهم بين عشية وضحاها، لا بل إن بعض الأقطار العربية ثمة نماذج تغير جلودها بنفس السرعة القياسية مع مجيء كل حاكم جديد يلعن سلفه السابق، فتلعن تلك النماذج معه - في انتهازية وضيعة - من كانت تبجله بالأمس. إن موقف هذا الضرب من المثقفين الانتهازيين إنما يكشف كذب وزيف تبنيهم الحقيقي لمبادئهم السابقة، فهم مع “الخيل يا شقرا” حالما اقتضت مصالحهم المنفعية الشخصية الضيقة ذلك، وفي أي وقت بلا حرج ولا حياء. أما المثقف العربي “التوفيقي” الذي لم يستطع التنكر لمبادئه بسهولة أو أن يشطبها نهائيًّا من حياته السياسية فإنه عندما يتسلم منصبًا رسميًّا يبذل كل ما في وسعه، ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، لأن يكون أقل مساسًا بمصالح الناس الذين طالما نادى بالدفاع عنهم وهو خارج السلطة، وقد يُخطئ وقد يصيب بهذا القدر أو ذاك، حسب مقدار الضغوط التي تفرضه عليه دوائر صنع القرار العليا في السلطة العربية. ولا شك أن أكثرهم مبدئيةً هو من لا يتحمل الضغوط الهائلة عليه إذا ما كانت إزاء مواقف شديدة الضرر بالناس فيستقيل من منصبه.
نحن هنا إذًا إزاء حالتين للمثقف العربي التوفيقي “الملتزم”: حالة المثقف الذي يظل مصرًّا على السباحة ضد التيار لعله ينجح هنا أو هناك في خطه “التوفيقي” وقد يتعثر في سباحته ويسقط في وحل الانتهازية، وحالة المثقف العربي “الملتزم” المستقيل الذي يشعر باستحالة الاستمرار في السباحة ضد التيار! وفي كلتا هاتين الحالتين لا يتردد المثقف الملتزم التوفيقي بعد خروجه من موقعه الرسمي عن مواصلة خطه الملتزم السابق بصورة واضحة. وهناك من يعلن عن تعبيره عن مواصلته هذا الخط وهو في موقع السلطة تجاه قضايا فكرية محددة لا تمس مباشرة سياسات السلطة، سيما إذا ما تقبلت السلطة العربية منه ذلك لتتخذ منه دلالة على ديمقراطيتها وتعدديتها حتى داخل جهازها التنفيذي. واللافت أن هذا الصنف من المثقفين يجد قوى المعارضة لا تقف منه موقف المناوءة والمناكفة، بل تحتفي باستئنافه مواقفه الثورية السابقة المعلنة، وإن كانت قد أضحت حذرة إلى حد ما، بل ولطالما استضافته المعارضة في منتدياتها وفعالياتها. والمؤكد أن كل من يقرأ هذا الكلام سيقفز في ذهنه على الفور نماذج لا حصر لها من كبار مثقفينا ومفكرينا العرب الذين تضرب شهرتهم الآفاق، سواءً كانوا كتابًا وأكاديميين أو من كبار الشعراء والفنانين. على أننا سنخصص المقال القادم لأستاذنا الجامعي في العلوم السياسية الدكتور علي الدين هلال كمفكر عربي كبير يستحق الاحترام، فهو ممن غادروا مواقعهم السابقة في السلطة وشغلوا مناصب عليا فيها، أيًّا تكن درجة الاتفاق أو الاختلاف مع اجتهاده التوفيقي، لنتعرف على مواقفه المبدئية الآن وهو خارج السلطة.

كاتب بحريني

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية