يُعد عالم الاجتماع والمؤرخ بنيامين ستورا، ورئيس مرصد التنوع، ورئيس الجانب الفرنسي في لجنة الذاكرة الفرنسية الجزائرية المشتركة،من أكفأ أعضاء اللجنة، فهو مطلع بشكل معمق على تاريخ الحقبة التي عاشتها الجزائر في ظل الاستعمار الفرنسي، وله مؤلفات عنها، وهو يهودي جزائري الأصل وُلد في قسنطينة وعاش شطراً من طفولته فيها، وشاهد بأم عينه القمع الوحشي التي ترتكبه السلطات الاستعمارية بحق السكان المدنيين العزل، وظل يحمل ذكريات مريرة مؤلمة لمشاهد ذلك القمع إبان مرحلة الطفولة، بما في ذلك حادثة اقتحام جنود فرنسيين لمنزل عائلته مع إطلاق النار،فرأى الموت على حد تعبيره. ومع أنه تعلم العبرية، لكنه كان يتحدث في طفولته مع أسرته بالعربية، دون إلمامه بقراءتها وكتابتها. وشغلته بعد انتقاله إلى فرنسا واكتساب جنسيتها مسألة حقوق الأقليات.وعلى هامش مؤتمر " عشرون عاماً من التنوع .. نحو بناء مواطنة شاملة" الذي انعقد في الشهر الماضي في معرض لوريال بباريس أجرت معه "قناة الجزائر الدولية" حواراً، وتالياً أهم ما جاء فيه من نقاط هامة:
- يوجد في فرنسا تنوع كبير جداً للأقليات ، لكنه لا يتمتع بالتمثيل السياسي والثقافي والاقتصادي، وتصاعد اليمين المتطرف يهدد التعددية، وإشاعة العداء للآخر الأجنبي من قِبل من ذوي العرق الأبيض، وغياب تمثيل الجزائريين في فرنسا من مسببات الأزمة مع الجزائر.
- لا أتفق مع ما صرحت به مارين لوبين ( زعيمة حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف) بأن حقبة الاستعمار الفرنسي للجزائر لم تشكل مأساة لشعبها، فالقمع الذي مورس بحق شعبها أدى لنزوح الكثير منهم ومصادرة أراضيهم، فضلاً عن محاولة تشويه هويتهم الأصلية، ومثال على ذلك حظر استخدام أسمائهم العربية وإحلال أسماء فرنسية محلها، ناهيك عن التغريب القسري الذي مورس بحقهم، ما أفضى إلى تضييع النسب المرتبط بجذورهم في أراضيهم التي تمت مصادرتها.
- 17 تجربة نووية أجرتها فرنسا قبل وبعد استقلال الجزائر، خلفت كثرة من الضحايا، وأوصى ستورا بتشكيل لجنة تحديد مواقع التجارب لتنظيف النفايات التي تهدد حياة المواطنين، ناهيك عما يهددهم من ألغام زرعتها فرنسا على حدود الجزائر مع جيرانها.
-استعادة الثقة بين البلدين تتطلب استكمال أعمال لجنة الذاكرة، وإقرار فرنسا بحق الجزائر في التعويض، وتطبيق التوصيات التي جاءت في تقريري الذي رفعته للرئيس ماكرون.واليمين المتطرف في المجتمع الفرنسي الذي يمتلك وسائل إعلام جديدة قوية يلعب دوراً في عرقلة بناء الثقة بين البلدين.
-أتفقنا في اللجنة على أن نقطة البداية التي ننطلق منها هو الغزو الاستعماري الفرنسي للجزائر عام 1830، وليست الأحداث الأخيرة التي سبقت وأعقبت الاستقلال 1962. وكل فظائع الغزو طوال تلك الحقبة الطويلة مدونة في مذكرات الضباط الفرنسيين الذين شاركوا في ذلك الغزو.
- استعرض ستورا أبرز المذابح والفظائع التي ارتكبتها فرنسا بحق الجزائريين في فرنسا والجزائر في القرن العشرين قبل استقلال الجزائر، ومنها الحصار الذي فرض على مدينة قسنطينة لمدة عام قبل الاستيلاء عليها،والذي كان على حد تعبير ستورا "مروعاً للغاية".
والحال فبالرغم من أهمية كل تلك القضايا التي أثارها المؤرخ بنيامين ستورا التي قدمنا خلاصتها بتلك النقاط، إن هي إلا غيض من فيض من قضايا شائكة عديدة مدرجة على ملفات لجنة الذاكرة، ومنها على سبيل المثال، قضية جماجم المجاهدين الذين قُتلوا تحت التعذيب، وما فتئت فرنسا تحتفظ بها في "متحف الإنسان " طوال 175 عاماً منذ بدايات غزوها للجزائر في القرن التاسع عشر ! ولم تسترجع منها الجزائر سوى 24 جمجمة من أصل بضع مئات من الجماجم، وهو عار ما بعده عار يصعب تصديق أن ترتكبه دولة انطلقت منها الثورة الفرنسية، مصدر إلهام العالم كما يُفترض لقيم الحرية والعدل والمساواة والديمقراطية وفي حوارات له مع وسائل إعلام متعددة أُجريت معه في الآونة الأخيرة لم يتوان عن كشف جرائم فرنسا، وحقوق الإنسان، سيما وأنها ما برحت متمسكة بهذا الأرث الاستعماري العنصري المقيت الأسوأ .
إن فرنسا ترتكب خطأً كبيراً أن اعتقدت أن إرثاً بهذا الحجم الكبير من الظلم والفظائع التي تقشعر لها الأبدان يمكن القفز عليه بكل سهولة من خلال التعنت دون الأعذار عنه والإقرار بحق الجزائر في التعويضات الشاملة، وهذا التصحيح المنتظر منها ليس من أجل سمعتها الإنسانية والديمقراطية فقط، بل ومن أجل أيضاً الحفاظ على المصالح المشتركة بين البلدين وما أكثرها. وعلى فرنسا أن تتذكر بأن على أراضيها ما يقرب من ستة ملايين جزائري،من مقيمين ومهاجرين ومكتسبي الجنسية الفرنسية، وبالتالي فإن إبقاء ملف الذاكرة معلقاً قد يفضي إلى ارتدادات سلبية أمنية في الداخل الفرنسي بين أوساطهم .