العدد 5985
الثلاثاء 04 مارس 2025
كوكب الشرق في باريس  
الثلاثاء 04 مارس 2025

كانت فرنسا حينما هبطت كوكب الشرق في مطار "لو بورجيه" خريف عام النكسة نفسه(نوفمبر 1967)،لإحياء حفلتين غنائيتين لصالح المجهود الحربي، يحكمها واحد من أكثر قادتها حنكة وخبرةً في أعقاب الحرب العالمية الثانية،ألا هو الرئيس شارل ديجول الذي كان يتبع حداً أدنى من التوازن في علاقات بلاده مع إسرائيل والدول العربية، وكان وزيره للثقافة الروائي والناقد الأدبي والفيلسوف أندريه مالرو  أشهر وزير ثقافة عرفته فرنسا في الكفاءة وسعة الأفق، أما مدير مسرح الأولمبيا برونو كوكاتريكس الذي أقامت عليه الست حفلتيها الغنائيتين، فهو  الآخر جدير بمنصبه من الناحيتين التجارية والثقافية.ومن هنا يمكننا فهم النجاح الساحق الذي حققته أم كلثوم، كما الأبعاد والدلالات الثقافية والفنية المهمة التي تكتسبها زيارتها لعاصمة الأنوار ،والتي لم يسبق أن حظيت مطربة كبيرة عربية في زيارة لها لأي عاصمة عربية أو أجنبية بمثلها في تلك الحفاوة العظيمة واسعة النطاق كالتي حظيت بها الست، بل يمكن القول أن ما نالته من اهتمام كبير  إعلامياً وعلى المستويات الثقافية والفنية وعلى الصعيدين الرسمي والشعبي يفوق حينذاك في ما حظيت به أي مطربة عالمية مشهورة في زياراتها إلى أي في عاصمة في العالم. 
فمن الناحية الإعلامية فقد منحتها الصحافة الفرنسية والتلفزة والإذاعة تغطية موسعة لبرنامجها الفني والشخصي طوال إقامتها، ناهيك عن تغطية موسعة واسعة لوسائل الإعلام العربية والعالمية . وحسب كريم جمال في كتابه" أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي" فإن 25 صحيفة ومجلة فرنسية من أشهر الصحف والمجلات تصدرت صورة أم  كلثوم صفحتها الأولى أو غلافها أثناء زيارتها. ومن الناحية الرسمية، فبعد أن وجهت رسالة شكر وتقدير للرئيس ديجول لما وجدته من حفاوة واهتمام في بلاده، تلقت منه رداً رسمياً جاء فيها:" لقد لمستِ بصوتك سيدتي أحاسيس قلبي وقلوب الفرنسيين جميعاً". ولم تخل الحفلتان الغنائيتان اللتان أحيتهما على مسرح الأولمبياد من حوادث غريبة تعكس عشق كثرة من العرب لفنها عشقاً ثملاً جنونيا، كحادث فقز شاب جزائري في لمح البصر إلى المسرح متشبثاً بقدميها لتقبيلهما أثناء ما كانت تغني رائعتها الشهيرة  " الأطلال" ، وكان جُل الحاضرين من الجاليات العربية، وبخاصة شباب الضواحي الفقيرة الذين استعدوا للحضور بادخار كل ما يملكونه من مال شحيح، عدا شباب وفدوا من بلدان أوروبية وعربية، فضلاً عن الفرنسيين الذين قُدّر عددهم ب 20٪‏، علماً بأن  تذاكر الحفلين نفدت في وقت مبكر قبيل أحيائهما، كما حضرهما وزراء وسفراء من الدول العربية وغير العربية، والفنانة المصرية الشهيرة فاتن حمامة وقد امتدت السهرتان حتى ساعة متأخرة من الفجر.وكان أداء ثومة فاق كل التوقعات في روعته وفي تجاوب الجمهور شديد الانفعال معها بصخبه المعهود هتافاً وتصفيقاً وطلباً بإعادة فقرات من أغنياتها المغناة في كلا الحفلين. وبالإضافة إلى أغنية الأطلال التي أثملت الشاب الجزائري وأطارت عقله غنت في الأمسيتين عدداً من روائع أغانيها الشهيرة: "أنت عمري" و" أمل حياتي" و" بعيد عنك" و " فات الميعاد".
 أما من الناحية المالية فقد خرجت الست بحصيلة مالية كبيرة بلغت 14 ألف جنيه، علماً بأن أم كلثوم اشترطت بحزم على مدير مسرح الأولمبيا  كوكا تريكس أن تتقاضى 20 مليون فرنك قديم. 
لقد كانت رحلة كوكب الشرق ناجحة جداً إلى أبعد الحدود، كما كانت تاريخية بمعنى الكلمة و بكل المقاييس والأبعاد الفنية والسياسية والثقافية، وإذا كان ليس غريباً أن يُحيي المصريون والعرب ذكرى مرور نصف قرن على رحيلها في أوائل فبراير 2025 لما تمثله من مكانة وجدانية كبرى هائلة لم تتبدد، فإن من اللافت ما شكلته رحلتها إلى باريس من أهمية وتاريخية لدى الشعب الفرنسي نفسه، بما تركته من صدى وآثار أمتد طويلاً لدى أبنائه، وخصوصاً لدى مثقفيه وعشاق الفن الغنائي، إلى درجة حملت الكاتبين مارتين لا غارديت وفريد أبو جلال على تأليف كتاب بالفرنسية بعنوان: " أم كلثوم السلاح السري لناصر" صدر عشية الذكرى الخمسينية نفسها، و يتناول حفلي تلك الرحلة تحديداً، حيث أختص الأول بتحريره والثاني بالرسومات المعبرة عن أنشطتها الفنية والخاصة خلال زيارتها لباريس. وإذا كانت كثرة من الإعلاميين والنقاد العرب والأجانب والفرنسيين وصفوها بأنها كانت "أسطورة العرب" في الفن الغنائي، وأنها كانت خير سفيرة لهم، فإنها كانت خير سفيرة للعرب على وجه الخصوص لتعرف الفرنسيين والعالم على جانب مشرق من فنهم الثقافي الموسيقي رغم أنهم حينذاك كانوا يعيشون في ظلام هزيمة يونيو المريرة، قبل أُفول العصر الجميل لذلك الفن الممتع، إثر صعود تيارات الإسلام السياسي المتشددة، وانكسار الوجه الحضاري للمشروع القومي بقيادة عبد الناصر والذي ما فتئت آثاره وبصماته جاثمة بقوة على الحياة الثقافية في الأقطار العربية جمعاء.  

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية