على الرغم مما تشهده العلاقات الدبلوماسية الفرنسية الجزائرية من تأزم في ضوء مستجدات متسارعة باتت معروفة تتناقلها وكالات الأنباء، إلا أنه لا يمكن لأي محلل أو مراقب سياسي يتمتع بحد أدنى من الموضوعية أن يتناول كل تلك المستجدات بمعزل عن الإرث الاستعماري الفرنسي الثقيل في الجزائر والذي بات يخيم ملفه على العلاقات الراهنة بين البلدين، والذي لا يبدو أيضاً أن باريس في وارد تسويته بجدية ونوايا حسنة، وما التطورات الأخيرة المتلاحقة في الأزمة إلا تحصيل حاصل ناجم في المقام الأول عن عدم تسوية ذلك الملف القديم الجديد، جراء سياسة المساوفة التي يتبعها الطرف الفرنسي لتمييع جوهر الأزمة التي تعكر صفو العلاقات بين الدولتين.
لقد لا حت في الأفق أوائل العقد الجاري، وتحديداً في عام 2021 فرصة ذهبية نحو تسوية ذلك الملف بعد مباحثات طويلة معقدة بين باريس باعتبارها الطرف المستعمِر( بكسر الميم) والجزائر باعتبارها الطرف المستعمَر( بفتح الميم) حيث تم الاتفاق بين الطرفين على تشكيل لجنة بينهما تُعرف ب " لجنة الذاكرة الجزائرية الفرنسية حول فترة الاستعمار" وعقدت عدة اجتماعات لتسويات ملفات الإرث الاستعماري الشائك المتعددة، ومن ذلك- على سبيل المثال لا الحصر- جرد كل ما نهبه الطرف المستعمِر من تراث مادي منذ استعماره للجزائر 1830 حتى استقلالها 1962، والذي يشمل تسليم الجزائر الممتلكات الثقافية الأرشيفية والثقافية، لابل أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أمام مؤرخين فرنسيين أعضاء في لجنة الذاكرة في سبتمبر الماضي عن تمسكه بإنجاح عمل لجنة الذاكرة ( فرانس 24)، لكن يبدو ما يعلنه ماكرون ظاهرياً من تصريحات إيجابية تدعو للتفاؤل يناقض تماماً مع ما يجري على أرض الواقع، وخصوصاً بالنظر لما يعبر عنه اليمين الفرنسي المتطرف من مواقف وسياسات لا تخدم روح عمل لجنة الذاكرة المشتركة وتكللها بالنجاح المنشود الذي عبّر عنه الرئيس ماكرون، وحيث يبدو وزير داخليته برونو ريتايو من مواقفه وتصريحاته أقرب إلى اليمين المتطرف منه إلى الرئيس نفسه، وذلك بمسارعته مؤخراً باتخاذ حزمة من الأجراءات التأزيمية تجاه الجزائر بلا تؤدة، والتي من شأنها صب الزيت على النار في توتير العلاقات بين البلدين. لكن يظل السؤال القائم :هل يُعقل أنه أتخذ تلك القرارات بمعزل كامل عن الحكومة والرئيس؟ وأيا كان الأمر فإن التوتر الحالي بين الجانبين يلقي بظلاله الثقيلة حول مستقبل "لجنة الذاكرة" والتي كان يُنتظر من نتائجها أن تكون قدوة في إقرار حق كل الشعوب العربية وغير العربية في تصفية الإرث الاستعماري الذي ما برحت ملفاته مغلقة، لتعنت الدول الاستعمارية الرافضة فتحه!
وبالرغم من أن لجنة الذاكرة الفرنسية الجزائرية قد عقدت منذ بدايات نشاطها في خريف 2023 ما لا يقل عن أربع اجتماعات سارت خلالها الأمور على ما يُرام ، إلا أنه وحسب المؤرخ الفرنسي اليهودي الجزائري الأصل بنجامين ستورا الذي كلفه الرئيس ماكرون بملف الذاكرة، وهو رئيس أعضائها عن الجانب الفرنسي أيضاً ، تم توقيف نشاطها جراء التوترات التي خيمت على العلاقات الدبلوماسية بين البلدين خلال الشهور القليلة الماضية، ولم يتردد ستورا عن أتهام باريس بمسؤوليتها عن ذلك، بالرغم مما تجمع المؤرخين الجزائريين والفرنسسن من علاقات جيدة جداً وتفاهم مشترك في نهج عمل اللجنة وفق ما عبّر عنه ستورا نفسه. ولعل من المفيد الاستماع إلى آرائه ومتابعاته عن قرب عن ذلك الملف الشائك كشاهد عيان ومن واقع خبرته المديدة عن هذا الملف، وباعتباره شخصية تاريخية محنكة تتوخى قدراً معقولاً من الموضوعية تجاه قضية الأرث الاستعماري الفرنسي في الجزائر،واستحقاق الأخيرة وفق القانون الدولي وشرعة حقوق الإنسان العالمية بتسويته تسوية عادلة منصفة.( أنظر في هذا الصدد: زمن الأعتذار .. مواجهة الماضي الاستعماري بشجاعة، لمجموعة من الباحثين الغربيين، المركز القومي للترجمة، القاهرة 2019) .