كانت أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حليفًا استراتيجيًّا للولايات المتحدة الأميركية، تسير في ركابها، وتستفيد من مظلتها العسكرية والأمنية. لذلك عندما بدأت تهديدات الرئيس ترامب تترجم على الأرض بأفعال، انتفض الأوروبيون، فانتهت اجتماعاتهم العاصفة في لندن وباريس وبروكسيل، بصدور قرارات (أو نوايا قرارات) يمكن أن تكون بداية لاستعادة أوروبا قوتها المستقلة، بتخصيص أكثر من 800 مليار يورو للتسلح حتى سنة 2030م، ورفض أي سلام مفروض على أوكرانيا تبدو فيه روسيا منتصرة.
 لقد كانت معظم النخب الأوروبية تعتقد - منذ الولاية الأولى للرئيس ترامب، بأن الترامبية هي (مجرد حادث سير عشوائي)، وانعطافة مؤقتة خارج النسيج الديمقراطي، لذلك لم يأخذوا كلامه مأخذ الجد، اعتقادًا منهم أن هذه السياسة سريعًا ما ستتلاشى بانتهاء ولايته وعودة السياسة الأميركية إلى مسارها التقليدي. لكن مثل هذا التشخيص لم يكن صحيحًا، لأن الأفكار لا تسقط من السماء، إنما هي نتاج طبيعي للتطور التاريخي للمجتمعات والدول ومعادلات الواقع التي تتغير باستمرار. إن الترامبية جاءت كرد فعل على فساد المؤسسة السياسية الأميركية وفشلها، وتحميل أميركا أعباء منهكة على حساب دافع الضرائب، في مقابل عدم تحمل أوروبا أعباء أمنها الجماعي، فأميركا تتحمل بدلًا عنها ما نسبته 66 % من موازنة حلف شمال الأطلسي، ويوجد على الأراضي الأوروبية أكثر من 40 قاعدة عسكرية أميركية، وينتشر عشرات الألوف من القوات الأميركية عبر القارة. 

 إنها معادلة مختلة لم يعد من الممكن استمرارها من وجهة نظر السياسة الجديدة، بما في ذلك ضرورة التوقف عن دعم الحرب العبثية في أوكرانيا. 
 إن صعود الترامبية نتاج لمسار طويل دام أكثر من ثلاثين عامًا على الأقل من انحدار الرأسمالية الأميركية. ولذلك، وحتى لو كان الديمقراطيون قد انتصروا على ترامب في الانتخابات الأخيرة، لم يكن من الممكن أن يتمكنوا من إصلاح التناقضات المتأصلة في النظام الرأسمالي الأميركي. كما أن شعبوية الرئيس ترامب - رغم الضجيج - لن يكون لها أفق سياسي على المديين المتوسط والطويل، لأنها ستصطدم باستحالة إرجاع التاريخ إلى الوراء، بما في ذلك استعادة الصناعات التي هاجرت والوظائف التي اندثرت.

كاتب وإعلامي بحريني