منذ قيام الولايات المتحدة الأميركية (1776)، أي ما يقرب من 250 عامًا، لم تتكشف عورات نظامها الديمقراطي كما تكشفت في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة، وعلى وجه الخصوص منذ مطلع القرن الحالي حتى بلغت ذروة هذا التكشف في السنوات القليلة الماضية بدءًا من ولاية الرئيس الجمهوري دونالد ترامب الأولى (2017 - 2021)، مرورًا بولاية الرئيس الديمقراطي جو بايدن (2021 - 2024)، وصولًا إلى مستهل ولاية ترامب الحالية.
نسوق هنا مثالين بسيطين من الواقع غير البعيد زمنيًّا على ما يشوب النظام الديمقراطي الأميركي من ثغرات وعيوب خطيرة تتناقض مع أبسط مفاهيم الديمقراطية وفصل السلطات وانتهاك القانون، وهي أسس ومبادئ متعارف عليها دوليًّا في مفهوم أي نظام يتمتع بحد أدنى من تلك الأسس والمبادئ: الأول يتمثل في قيام الرئيس الديمقراطي السابق بايدن في مطلع ديسمبر الماضي، غداة فوز الرئيس ترامب في الانتخابات الرئاسية الأخيرة وقبيل استلام الأخير مهماته رسميًّا في 20 يناير الفائت، بإصدار عفو عن ابنه هانتر المتهم في قضيتين، الأولى حيازة أسلحة بشكل غير قانوني، والثانية تورطه في قضية احتيال ضريبي، فضلًا عن جرائم أخرى خلال السنوات العشر الماضية (2014 - 2024). واستند بايدن في ممارسة هذه السلطة إلى الدستور الذي يمنح الرئيس حق العفو عن متورطين في جرائم جنائية فيدرالية ويخفف من أحكام عقوباتها. ولطالما استخدم الرؤساء الأميركيون السابقون - تعسفيًّا ومنفعيًّا - هذه السلطات الشاذة غير المتوافقة مع روح الدستور
والموروثة عن النظام الملكي الإنجليزي إبان ما كانت المستعمرات البريطانية في أميركا؛ وذلك للعفو عن المجرمين في القضايا المتعلقة بالمخدرات وإدانات الاحتيال، والمتهربين من الخدمة العسكرية، كما حدث أثناء الحرب الأميركية على فيتنام.
الثاني: يتمثل في إتاحة الفرصة عمليًّا للرئيس الحالي ترامب للترشح مجددًا لانتخابات الرئاسة الأميركية الأخيرة، فيما هو ملاحق - كما يُفترض - في عدد كبير من القضايا الجنائية، منها دوره في تحريض أنصاره المسلحين في أعمال الشغب والعنف عند اقتحامهم الكونجرس في يناير 2021، بغية الحيلولة دون تصديق السلطة التشريعية على نتائج انتخابات الرئاسة التي فاز منافسه بايدن فيها. وقد قام فور توليه رسميًّا مهمات الرئاسة بالعفو عن 1500 سجين مدان في التهمة! كما أصدر عفوًا للإفراج عن عناصر قيادية منتمية إلى جماعات إرهابية متطرفة. وترامب إلى ذلك ملاحق قضائيا في قضايا خُلقية كالاغتصاب، ودفع رشاوى لسيدات أقام معهن علاقات جنسية مقابل عدم إفشائهن بذلك، وقيامه كذلك بنقل وثائق سرية إلى منزله أثناء مغادرته البيت الأبيض غداة فشله في انتخابات 2021 الرئاسية، وكذلك قبوله تلقي هدايا من نظراء له خلال فترة رئاسته السابقة، هذا إلى جانب تهم أخرى تتصل بالتهرب الضريبي على خلاف القانون.
وكل تلك القضايا، والعديد منها على درجة كبيرة من الخطورة، لم تحل دون تمتع ترامب بحق الترشح والفوز في الانتخابات الرئاسية الأخيرة فحسب، بل واستغلال ما يتمتع به من سلطات، يُفترض أنها لا تنسجم وروح دستور دولة كبرى عريقة في ديمقراطيتها؛ للعفو عن متورطين معه في انتهاكات قانونية جسيمة للإفراج عنهم، تمامًا كما فعل سلفه بايدن في استغلال السلطات ذاتها للإفراج عن ابنه!
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: ما الفرق إذا - فيما يتعلق بتلك السلطات الشاذة على الأقل - بين النظام الديمقراطي الأميركي وأي نظام استبدادي آخر يمنح رئيسه تلك السلطات الواسعة، مهما تكن درجة خطورتها، ودون أن يُتاح للسلطة التشريعية حق مناقشتها والاعتراض وإشهار “الفيتو” عليها، ودون أن تتاح أيضًا للسلطة القضائية آليات تمكنها بحق البت الفوري فيها للحيلولة دون أن يتمكن أي رئيس جديد من القفز عليها ليبدو بذلك وقد كوفئ بحقه في الترشح للرئاسة والفوز فيها مجددًا؟
كاتب بحريني