لعل من المفارقات الغريبة التي لم يتوقعها الشيخ إبراهيم البلتاجي والد أم كلثوم ، ولا أحد من متابعي سيرتها الفنية الغنائية في بداياتها الجنينية بقريتها "طماي الزهايرة" أن تكون ابنته الطفلة ثومة التي هيأها لغناء التواشيح والقصائد الدينية، وجعلها ترتدي الكوفية والعقال، ليخفف بذلك من وقع نظرة المجتمع القروي المستهجنة لمشهد صبية تغني في حفل رجالي،حيث ظهرت بذلك اللباس الغريب المتنكر لجنسها.. نقول : لعل من المفارقات الغريبة أن تكون هي نفسها التي احتار النقاد في تصنيف صوتها الذهبي الرائع الفريد من نوعه بين كل فنانات وفناني العالم.. هل هو صوت أنثوي خالص كأصوات الفنانات؟ أم هو صوت رجولي؟ وكان بعض النقاد أخذوا بتصنيف "بين بين"، بمعنى لا هو بالذكوري ولا هو بالأنثوي.ويشاء القدر لهذه المزية الصوتية-التي تبدو للوهلة الأولى شاذة أو معيبة- أن يكمن فيها سر عظمة صوت وحنجرة أم كلثوم، وليس معنى ذلك بالضرورة أن كل من يمتلك تلك المزية - رجلاً أو امرأة- تتوافر فيه المزايا الصوتية الفنية التي كانت تمتلكها أم كلثوم وتتفرد بها في الإبداع الغنائي بين كل مطربي ومطربات عصرها. والغريب أنها ذاتها،وبما وهبها الله بهذه الملكة الصوتية تحديداً، وقع في غرامها بعض كبار الشعراء والملحنين( أبرزهما رامي والقصبجي) تحت تأثير هيامهم بهذا الصوت الساحر الفتّان وبراعتها الإبداعية في الإدلاء الغنائي، دون أن يكون لجمالها المتواضع -في تقديرنا- تأثير اللهم إلا أدنى الحدود،فلقد وجدوا أنفسهم وقد انجذبوا مشدودين إلى سحر الصوت غنائياً بقوة كيميائية مغناطيسية غرامية مذهلة نحو شخصيتها الفنية والإنسانية .
في كتابه " أم كلثوم التي لا يعرفها أحد" يصف الكاتب الصحفي محمود عوض صوت أم كلثوم بأن أبعاده تصل من 60 إلى 16 ألف ذبذبة في الثانية بين أقوى صوت، أما يليها في الدرجة فيصل إلى 10 آلاف ذبذبة في الثانية، وأن الكلمات التي يقرأها الناس في دقيقة ويغنيها المطربون في 10 دقائق..تغنيها أم كلثوم في ساعتين في ظل إعادة المقطع الواحد إلى ما يصل أحياناً ثماني مرات"! ولعلنا نتلمس في وصفه قدراً من المبالغة.وبمبالغة أقل ينقل لنا الكاتب المسرحي المصري الكبير ألفريد فرج عما يتردد إعلامياً بأن المساحة الصوتية لأم كلثوم تفوق المساحة الصوتية لأكبر مغنية أوبرا غربية كانت شهيرة في عصرها، ألا هي " ماريا كالاس". و تأخذه عاطفة الافتتان بصوت الست إلى حد تعجّبه من عدم عثوره على أي بحث علمي أو فسيولوحي أو طبي يحلل سر القدرات الصوتية لأم كلثوم"، بل ويناشد الأطباء والنقاد المتخصصين في فنها ودارسي الموسيقى بتحليل الظاهرة الصوتية الفريدة عند أم كلثوم بما يتيح الإيضاح والوصف العلمي للظاهرة! ( ألفريد فرج، شارع عماد الدين، حكايات الفن والنجوم، كتاب الهلال، نوفمبر 2005، القاهرة، ص 215).
في مقابل ذينك النموذجين المتقدم ذكرهما ( محمود عوض وألفريد فرج) ثمة نموذجان متخصصان نقدياً لعلهما أقرب للموضوعية والتوازن في تقييم صوتها، دون إبخاس لما له من خصائص فنية متفردة، الأول تمثله الباحثة المصرية الدكتورة رتيبة الحفني، والثاني يمثله الدكتور الياس سحاب، إذ ترى الحفني بأن صوت أم كلثوم يمتاز بالقوة والجمال،وأن حفظها وتجويدها القرآن أكسبها خبرة تمكنها من إعطاء كل حرف وكل كلمة ما ينبغي للنطق الصحيح.وتضيف قائلةً : " بأن أم كلثوم تدقق في اختيارها للكلمات.. وتشترط أن تكون على مستوى صوتها وأدائها وتدرك قواعد النحو والإعراب"، وأنها بموهبتها وذكائها تمكنت من تطوير صوتها، فبعدما كان في بدايات غنائها يمتاز بكثرة الذبذبات الصوتية، استطاعت التخلص منها وأن تلون صوتها لخدمة التعبير الموسيقي بما يتناسب والكلمات. وإذا كان الملحن يفصّل لحنه تبعاً لمنطقة القوة في اداء صوت المغني أو المغنية، فإن حنجرة أم كلثوم تملك مناطق متعددة من الأصوات التي تتلاعب فنياً في توظيفها بالتنقل بين النغمات الموسيقية بسهولة ويسر، حتى قفلاتها في نهاية الجملة الغنائية كانت تؤديها بسهولة. وتنقل الحفني عن الموسيقار محمد عبد الوهاب، بما يعزز فرضيتها، قوله الرائع في تجسيد وصف القفلة عند كوكب الشرق: " لم تضع أم كلثوم قفلة واحدة .. كانت دائماً تفاجيء الجمهور بقفلة قوية.. تشبه الجول عند لاعب الكرة ".(رتيبة الحفني، أم كلثوم معجزة الغناء العربي، الهيئة العامة للكتاب، دار الشروق، طبعة خاصة، بدون تاريخ). واستطراداً لتقييم الموسيقار عبد الوهاب لصوت أم كلثوم فقد وصفه بأنه عاصمة الأصوات، زعيم الأصوات، صوت قوي حساس، فيه مرح وسعادة ثم تكامل في المساحة الصوتية، فيه زقزقات، نبرات، اهتزازات صوتية، بحيث لا يمكن أن تفلت منها أو "تخيب". وأن قدراتها الصوتية ذات قدرة فائقة في التحكم على القفلة، بحيث لا يمكن أن تفلت منها أو "تخيب".( مجلة " المجلة" السعودية، حوار الدكتورة سهير عبد الفتاح ، مستخرج من جوجل مؤرخ في 17 سبتمبر 2020 ).
أما الناقد الفني سحاب، فنجده يتطرق إلى خاصية في صوت أم كلثوم تتميز به عن المطربين والمطربات على السواء، وذلك فيما يتعلق بجندر صوتها الذي يجمع بين الذكورة والأنوثة ،و يبدي سحاب ضمنياً توافقاً مع ما طرحه الشاعر الروائي اللبناني الفرنسي الراحل سليم نصيب تركية في روايته التي كانت قد صدرت في الأصل بالفرنسية بعنوان" أم"، وهو الأسم المختصر الشائع لأم كلثوم في فرنسا منذ رحلتها التاريخية إليها خريف 1967. وكانت الرواية قد ترجمت إلى اللغتين الانجليزيه والإيطالية، ثم ترجمها زكي حجار إلى العربية بعنوان " كان صرحاً من خيال" الذي اقتبسه من مقطع لرائعة أم كلثوم الشهيرة" الأطلال"، والرواية استوحاها المؤلف من خياله مستعيناً بمذكرات الشاعر أحمد رامي التي تتضمن قصة حُب حقيقي كان يكنه الشاعر لكوكب الشرق، وهو أكثر شاعر من كل عظام شعرائها غنت له قصائد (137 أغنية من مجموع 283 لكل أغانيها طوال مسيرتها الفنية).ووجه التوافق الذي نقصده بين الناقد الموسيقي سحاب وتركية فيما قاله الأخير بطغيان عظمة صوتها وفحولته على أنوثتها،حتى بدا صوتها حائراً بين صوت رجل أو صوت امرأة، أو مترفعاً فوق تقسيمات الذكورة و الأنوثة، وينوه سحاب بأن هذا رأي بعض النقاد لا مؤلف الكتاب فحسب، مضيفاً:" ...حتى طغى الصوت على الأنثى في حياة أم كلثوم التي لم تتزوج إلا في الثلث الأخير من حياتها". ( الياس سحاب، أم كلثوم رحلة في عصرها وشخصيتها، مجلة الكتب وجهات نظر، يونيه 1999) .