في مقال بعنوان "نهاية أسطورة"، خلصنا إلى أنه بإصرار الطلبة الأميركيين على رفع الأعلام الفلسطينية والهتاف بالحرية لفلسطين في احتجاجاتهم اليومية على حرب الإبادة التي تشنها قوات الأحتلال الإسرائيلية على أهالي غزة، قد قوّضوا أسطورة "معاداة السامية" التي تدمغ بها إسرائيل كل من تسول له نفسه إدانة جرائم الحرب والمجازر اليومية التي يرتكبها جيشها المحتل في القطاع، علاوةً على انتقاد السياسات العنصرية التي تطبقها تجاه العرب داخل "إسرائيل" وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وفي تقديرنا أن تضامن الطلبة الشجاع مع الشعب الفلسطيني، لا سيما اليهود منهم، والذي لم تستطع خرافة "معاداة السامية" التشويش عليه لم ينبثق بينهم بين عشية وضحاها، بل يملك جذوراً تاريخية واجهت فيها الصهيونية وحلفاؤها في الولايات المتحدة نفس التحدي، وذلك على خلفية الجدل العارم الذي تفجر خلال الثمانينيات في الإعلام الأميركي، جراء ما أرتكبه جيش الأحتلال الإسرائيلي نفسه من انتهاكات فظة وجرائم إبان اجتياحه للبنان 1982. على أن الصهيونية حققت نجاحاً جزئياً- من خلال اخطبوطها في الإعلام الأميركي وفي الإدارة الأميركية- في سد أبواب النقاش الحر؛ لكي لا يزعزع إيمان المؤمنين بالأسطورة من أميركيين ويهود داخل الولايات المتحدة.
وللأسف لم يهتم أحد من وسائل الإعلام العالمية بإجراء حوارات متأنية مع نشطاء الطلبة للتعرف عما إذا توجد لديهم جذور لذلك الوعي الإنساني.
وفي جدل الثمانينيات جرى تجريم كل من يتمادى في الإصرار على الإستمرار في النقاش بمعاداة السامية، ومن أبرز هؤلاء بول فيندلي، السيناتور وممثل ولاية ألينوي في الكونجرس عن الحزب الجمهوري( طوال 22 عاما)، ما حدا به أن يفضح بأدق التفاصيل المعززة بالبراهين ضغوط اللوبي الصهيوني في الإدارة الأميركية، وذلك في كتابه المزلزل الذي اشتهر به عالمياً" من يجرؤ على الكلام" وقد تمت ترجمته إلى العربية وصدر عن "شركة المطبوعات للنشر والتوزيع"، ولأهميته فقد أُعيدت طباعته مرات عديدة،والطبعة التي بين أيدينا هي الثامنة، 1988، وقد رحل مؤلفه عن عالمنا 2018.
ومن الرائع في هذا الكتاب أن استعانت به المترجمة والإعلامية الفلسطينية سحر الهنيدي في ترجمة المقال الموسع فائق الأهمية" معاداة السامية ومعناها المتغير" الذي نشره آلان براونفلد في مجلة الدراسات الفلسطينية في خريف 1987 الصادرة بالإنجليزية، ثم نشرته الهنيدي مترجماً في مجلة الثقافة العالمية الكويتية في العام نفسه.
كما استعانت المترجمة في مقدمة المقال في تعريفها العلمي لمعنى "معاداة السامية" بموسوعة الدكتور عبد الوهاب المسيري الخاصة بالمفاهيم والمصطلحات الصهيونية، وفي هذا التعريف يتبين لنا بجلاء كيف حرّفت الصهيونية المعنى ليقتصر على معاداة اليهود حصراً، بينما المفهوم يشمل كل الأجناس السامية لا اليهود فحسب، علماً أن الساميين- كما حددهم المستشرقون الغربيون- يشملون الأقوام التي سكنت جزيرتنا العربية، وفي مقدمتهم العرب الذين هاجروا منها إلى الأقطار العربية مع الفتوحات الإسلامية.
وبهذا المعنى فإن معاداة السامية تشمل معاداة العرب، أما اليهود الذين حرضتهم الصهيونية على الهجرة إلى فلسطين والذين معظمهم قدِموا من أوروبا الشرقية فتنحدر جذورهم من أُصول خرزية.
ومع انتشار المفاهيم القومية في أوروبا أثناء القرن التاسع عشر، صنّف اليهود أنفسهم كأمة سامية، وفيما نادى العقلاء منهم بأن حل مشكلة معاداة السامية تكمن في إندماج اليهود في المجتمعات الأوروبية التي استوطنوها، عارض الصهاينة هذه الفكرة، بذريعة أن هذه "المعاداة" ظاهرة ميتافيزيقية أبدية تتخطى حدود الزمان والمكان، حتى وصل بهم الأمر إلى حد التعاون مع "الجستابو" النازي للوشاية ببني جلدتهم بهدف تكريس فكرة استحالة عيش اليهود في أوروبا، وأن لا خلاص لهم من اضطهادهم فيها سوى الهجرة إلى فلسطين!
وسنتتبع في مقال السبت المقبل كيف طورت الدعاية الصهيونية "معاداة السامية" لتتحدد لا باليهود فقط،بل لتشمل كل من ينتقد سياسات إسرائيل!